عن وهم الحياد ووهم الجيش الذي لا يقهر

من المعاني الأساسية للسرد كما جاء في لسان العرب لابن المنظور هو التتابع بالحديث، الا أن السرد كان موضوعا للنظريات الأدبية التي أنتجت مع ميخائيل باختين وفلادمير بوب ثم الفرنسي تزفيتان تودوروف مفهوم علم السرد أو "السرديات" وهو علم يعنى من ناحية بالخطاب السردي أسلوبا وبناء ودلالة ومن ناحية  ثانية بكيفية تأثير هذا الأخير على ادراكنا للعالم. لم يقتصر استخدام هذا المفهوم في الأدب بل استخدم في علم التاريخ وعلم الاجتماع وحتى في علم النفس.

تعد السرديات التاريخية والحدثية احدى المتلازمات الأساسية للهيمنة والتلاعب بالوعي وتشويهه. غالبا تكون وسائل الاعلام الاداة الأبرز لفرض هذه السرديات. بمعنى اخر ان الواقع يصبح سردية تحمله هذه الوسائل ومثقفيها، وهذه السردية نفسها  ليست بالضرورة واقعية، أي لا تعكس حقيقة واقعية بل هي جزء من منظومة هيمنة طبقية وامبريالية.

 

 

 خرافة الجيش الذي لا يقهر

عقب حرب تموز مباشرة ابدى رئيس جهاز الموساد "مئير ديغان" ورئيس جهاز الشين بيت "يوفال ديسكين" في اجتماع مع رئيس وزراء الكيان أولمرت ملاحظات واضحة فحواها "أن الحرب كانت كارثة وأن اسرائيل تلقت ضربة قاصمة".

قد تكون حرب تموز هي من أكثر الحروب التي أذلت العدو وحطمت سردياته عن قوة جيشه وجبروته. وتأثيراتها لا يمكن أبدا أن تتوقف عند هذا الانهزام العسكري، وذلك لان جزءا أساسيا من وظيفة الكيان الصهيوني هو الحرب والأمن الامبريالي وهذه الهزيمة ضربت جوهر هذه الوظيفة.

في ليلة 12 تموز اعتقد "دان حالتوس" رئيس أركان الجيش الاسرائيلي انه انتصر في الحرب بعد أن دمر ال54 منصة اطلاق صواريخ "زلزال" التابعة لحزب الله. الا أن الواقع أثبت العكس كليا فشمال الكيان لم يسلم من صواريخ المقاومة.

 

 

 

 

 

هناك وهم تاريخي تقع به أغلب الدول الامبريالية في مواجهتها حركات المقاومة، وهو الاعتقاد بأن الأسلحة المتطورة والطائرات بوسعها تدمير هذه الحركات والقضاء على وعيها المقاوم. وهذا الوهم وقعت به الولايات المتحدة مثلا في فيتنام وفرنسا في الجزائر والكيان الصهيوني(بصفته مخفرا لهذه الامبريالية) في لبنان. فكل هذا الحفل من الأسلحة المتقدمة والتكنولوجيا الذي انتظر العالم لكي يراه يستخدم في لبنان فشل منذ النهار الأول للحرب.  

 

عن الحياد وأزلامه

 

عند الكلام عن حرب تموز والعدو الصهيوني يعود دائما خطاب الحياد معطوفا على خطاب السلام الذي عبرعنه علي القادري بتوصيف دقيق في مقابلته مع مجلة الاداب حين قال أن "السلام كلمةٌ غريبةٌ عن السياق التاريخيّ للرأسماليّة". تدفع بعض وسائل الاعلام الى شيطنة كل مقاومة ضد الكيان الصهيوني تحت حجة الحياد وحماية البنى التحتية والخوف من ضرب السياحة والخدمات...

من الخطأ اختصار موقف الحياد بالوهم السياسي الذي يحمله بعض المثقفين والأحزاب السياسية، فمسألة الحياد أعمق من ذلك بأشواط .اجمالا موقف الحياد بصيغته هذه هو ملازم للبنان الكبير التي أرسته القوى الاستعمارية الأوروبية، بصيغة أدق هو ملازم لهذه البرجوازية الكولونيالية التي هي وليدة الاستعمار. احدى أهداف الاستعمار الأساسية في القرن التاسع عشر كانت تدميرالفضاء الاقتصادي الذي كان قائما قبل هذا القرن في المنطقة والذي كان في طريق تطوره، مع هذا التدمير ولدت نواة لبرجوازية كولونيالية في رحم بنية تتميز كلها بالتبعية. اجمالا موقف الحياد ملازم كخطاب أيديولوجي لهذه الهيمنة الطبقية البورجوازية في جوهرها التابعة للغرب، فمصالحها تفرض عليها أن تشيطن المحيط الجغرافي بل وأن تشيطن الحلول التي هي  من خارج فضاء الغرب، وما ردة الفعل على العروض الصينية الا تأكيدا على هذه النقطة. لذلك تم خلق سردية تاريخية تؤمن مصالح هذه البرجوازية التبعية، عبر تسلسل تاريخي وهمي، عبره تعلن أصالتها و"مشروعيتها" التاريخية. تأسست السردية على فكرة تميز لبنان الكبيرعبر العصور وعلى فرادته وطبيعة اقتصاده الخدماتي. والسردية نفسها تحاول الأجهزة الأيديولوجية فرضها كمسلمة عامة.

 

 

 

 

 

 

 

في خلق سردية بديلة

 

جزء من فشل الهيمنة الكاملة لسردية مثل سردية "لبنان الكبير" ولسرديات العدو الصهيوني هو وجود مقاومة لهذه السرديات، وللمفارقة كل مقاومة لواحدة منها هي حكما مقاومة للثانية، جزء من ذلك يرتبط في أن للسرديتين مصدر واحد هي الامبريالية.

لذلك تفرض الضرورة أمام كل القوى التي تحارب الامبريالية وتحارب نظامها التبعي أن تفرض سردية بديلة، وحكما هذه السردية ان قامت بالترفع عن الصراع الطبقي وغيبته تصبح محدودة في اطار يجعل منها وبجزء أساسي وليدة مفاهيم عاجزة عن مقاومة الامبريالية، فكل مفهوم مقاوم للامبريالية يجب أن يكون حكما مقاوما للرأسمالية. واحدة من الاشكاليات الأساسية للأحزاب الشيوعية بعد سقوط المنظومة الاشتراكية عجزها عن خلق سرديات بديلة والتي في صلبها البرنامج الشامل الذي يطال المرحلة.

في الأزمات يكون الوعي حكما مفتوحا على سرديات جذرية أي حقيقية، ذلك الوعي الذي في الوضع الطبيعي لسيطرة البرجوازية يكون واهما بطبيعية الحياة، والمثل الأبرز هو رؤية الناس للقطاع المصرفي اللبناني قبل وبعد الأزمة. هناك هيكل سردية-وهم انهار كله في ظرف فترة قصيرة وهذا يطال كل المسلمات الذي بني عليها النموذج اللبناني وخصيصا نموذج النيوليبرالية بعد الحرب. جزء من مسلمات هذا النموذج كانت تقوم على أن الشرق غير موجود أبدا وأن "العصر الأمريكي" لن ينهار مطلقا.

لعل العمل السياسي في هذه المرحلة يكثف اشواطا من العمل التراكمي، اذا خيض من قبل قوى التغيير الجذري بالطريقة الصحيحة، بمعنى اخر اذا خيض كصراع سياسي تتكثف به كل مستويات الصراع الطبقي.

في مرحلة كهذه التي نمر بها عالميا ميزتها انهيار مسلمات أربع مئة عام مترافقا مع انهيار للعقل الفردي، ليس هناك أكثر عقلانية من التشبث بالماركسية وبأفكار التغيير

الأكثر قراءة