الأزمة الإقتصادية العالمية من منظور آخر

ان ترى احراق دواليب او اتلاف محاصيل زراعية على شاشات التلفزة فهذا امر طبيعيُ ومألوف. يمكنه ان يكون عبارة عن احتجاج موسمي او عن سوء ادارة او تصدير او غيره. لكن ان ترى معظم نشرات الأخبار وبشكل متواصل لا تتحدث الا عن هذا الأمر، وان كل ما تراه هو في شوارع باريس، وواشنطن، وروما،و لندن وغيرها من العواصم الغربية... عندها يتعدى كونه حدثاً عادياً و يستدعي السؤال عما يجري. ندرك بعد السؤال بأن هناك ازمة، وهذه المرة ليست كالعادة في شوارع نيروبي، الخرطوم، القاهرة، كراتشي او برازيليا او اي مكان من الأماكن التي انتجتها سياسة "البؤس الرأسمالي"، والذي ما انفك يسلب وينهب هذه البلدان، تحت مسميات التنمية المستدامة، او التربية على الديمقراطية وغيرها من البرامج. اذن نحن امام مشهد آخر مختلف في المكان والزمان، والسبب سيكون حتمًا بالنتيجة. القضية اذن اكثر من احتجاج انها على ما يبدو ازمة وازمة كبرى. ان دخول العالم بشكل عام في عصر العولمة، ما بعد انتهاء مفاعيل الإنقسام الدولي حول قطبيّ الحرب الباردة، قد اسس لإعادة تركيب المنظومة السياسية والإقتصادية وحتى الإجتماعية. هذا التأسيس حمل في طياته بُعدين: الأول ثقافي-سياسي عبّر عن نفسه بشعارات نشر الديمقراطية وقيم العالم الحر، والثاني اقتصادي عبّر عن نفسه بالإعلان "المبكر" عن انتهاء عهد وصاية وتدخل الدولة في عملية الإنتاج من جهة، واطلاق الحرية لإقتصاديات السوق ولسيادة رأس المال من جهة اخرى. هذا الواقع الذي استجد في بدايات تسعينيات القرن الماضي، لم يأت من فراغ، او وليد "صدمة الإنهيارات"، او ردود الفعل عليها. لقد كان وبكل تأكيد ناتج عن تطور مكونات "ومكانيزمات" الرأسمالية، التي لم تهدء، ولم توقف تجديد آلياتها. بالعكس، كانت دائما في حالة تجديد، خاصة لآليات الربح السريع والإستغلال، ومن تشدد الى آخر اكثر تشددا. انه وليد "اتفاق واشنطن" في ثمانينيات القرن الماضي، الذي شرّع حرية انتقال رأس المال، دون عوائق مادية، مع تشريع كافة القوانين التي تُسهل ذلك، من الغاء الضرائب او تخفيفها على الإنتقال والإستثمار والإستخدام. لقد نتج عن هذا الواقع اعادة تمركز كبيرة لرأس المال، سواء في الدول الغربية صاحبته، او في الدول الفقيرة التي انتقل اليها غازياً سالباً، وجعلها مقصده لتنفيذ سياسته، وذلك لسهولة التحكم السياسي والسيطرة والتشريع، ولوجود المواد الأولية مع اليد العاملة الرخيصة والقليلة التكاليف، مكان وجدوا فيه المسرح المثالي لتجريب سياساتهم، اقتصادهم وحتى اسلحتهم. نحن اذن امام واقع استجد بعد ان دانت السيطرة والسيادة "للنظام الحر"، الذي هلل لإسقاطه جدار برلين و لإنتصار نموذجه، واعداً بالرخاء والحياة الحرة. هذا النظام الذي صفق طويلاً "للديمقراطيات الجديدة" ولأصحابها من "مترئسين" جدد، والذين هم بالمناسبة نماذج عن مجموعة منتفعين تربوا على الإنتهازية، ليكونوا في خدمة اسيادهم وقمع شعوبهم. هذا الواقع حاول بسط نفوذه واحكام سيطرته، كما اسلفنا، بعدة مفاهيم واساليب منها القديم ومنها المُستحدث، فكان " الهجوم الرأسمالي بإتجاه الدول الفقيرة" تحت حجج التنمية والحماية. لكن هدفه الأساس كان السيطرة على مستلزمات التطور الصناعي والإنتاجي من مواد اولية ومصادر طاقة، ومحاولة للقضاء بشكل مبكر على اي منافسة محتملة للمد الرأسمالي. فكانت برامجه تنتقل من بلد لآخر وفق شعارات كبيرة ومضمون فارغ، برامج تستخدم كل ما تيسر لها من وسائل، خاصة العنيفة وغير المشروعة: خلافات داخلية، اضطرابات اجتماعية، تبعية، تدخل... تكون بالواسطة، أو بأيديهم من خلال الحروب المباشرة. هذه الوقائع شكلت الإطار والأرضية لعالم ما "بعد العولمة المنظّمة"، التي اراد ارساءها منظرو ومدّعو النظام العالمي الجديد والمتحكمون فيه، والتي تبلورت خلال العقدين الأخرين، ومن ثم انفجرت حالياً. بوادرها كانت من خلال بعض مظاهر ازمة عقارية في الولايات المتحدة، لكن سرعة انتشارها في العالم، وتأثر معظم القطاعات بها، يجعلنا نقف ملياً حول طبيعتها، وسرعتها، وتوقيتها وتأثيراتها. حتى اللحظة، ما أزال مقتنعاً بأن هذه الأزمة ليست بنيوية في اسس النظام الرأسمالي، يمكن ان تكون بنيوية في الشكل الأخير الذي اتخذته الرأسمالية اي "رأسمالية السوق المعّولم"، المرتبطة بحركة وتمركز رأس المال من جهة، وحركة وانتقال الجيوش والأساطيل من جهة آخرى. هذه الأزمة ليست مُهددة للرأسمالية لأنها بكل بساطة تعرف - اي الرأسمالية- كيف تجدد نفسها وآلياتها وتحسن ادارة ازماتها. لذلك من هذا الإستنتاج الأولي -المتسرع في نظر البعض- سأناقش هذه الأزمة او لنقل تجلياتها من خلال عدة اعتبارات: الإعتبار الأول، اعادة تكوين رأس المال: ان "رأس المال" هو الأساس في الرأسمالية وعليه وحوله تدور مجمل الأمور والتداعيات. اننا بكل بساطة في منطقة "تحديد وتكوين" رأس المال، ومن هنا يمكن البدء بالمناقشة. لقد اعتمدت الرأسمالية ومنذ زمن بعيد، الى اللجوء من فترة الى اخرى الى اعادة تموضع رأسمالها، وذلك ارتباطا بالتطور او بالمشاكل او حتى بالأزمات، فكنا نراه يتمركز في داخل بلدانه او ينتقل الى الخارج اوالإثنين معاً. لكن مؤخرا، اي في العقدين الأخيرين، رأينا هجرة رأس المال في اتجاه واحد وهو نحو البلدان الفقيرة والنامية. هذه الهجرة لم ولن تكون ابدا بداعي التنمية او المساعدة، ولكن بكل تأكيد كانت في سبيل مصالح اصحابه (اي اصحاب رأس المال). هذه البلدان كما ذكرنا سابقا، تحتوي شرطيّ النمو الرأسمالي - اي نمو رأس المال المهاجر- اليد العاملة والمواد الأولية. اذن كلفة الإنتاج ستكون بطبيعة الحال بسيطة. نحن اذن امام معادلة جديدة: انخفاض كلفة الإنتاج (تكون لصالح اصحاب الرأسمال) وارتفاع سعر المُنتج (وهي لغير صالح المستهلك). بذلك وحسب نظرية "القيمة الزائدة" نحن امام ربح مضاعف لمن بيدهم السلطة والمال، وهذا بالأساس البسيط. هذا الواقع انتج ارباحًا مضاعفة لأصحاب رأس المال من دول واشخاص دون احداث اي عملية تنمية في البلدان المضيفة. بذلك يكون اعادة تمركز رأس المال بالأساس هو لزيادة الربح والإنتاجية فقط لا غير. اما شعارات العالم الحر من رفاهية وحرية وديمقراطية فلم تخرج عن اعتبارها "عدة الشغل". لقد برز على الساحة الإقتصادية وبقوة ما يُسمى "رأسمالية الإقتصاد المجردة"، التي هي بكل بساطة حركة راس المال الناتج عن المضاربات في الأسواق والأسهم وتناقلها في البورصات، فتتغير بذلك قيمة الرأسمال وفق معايير جدا مختلفة، فنرى الإنخفاض والإرتفاع ناتجًا عن مضاربات مالية او سياسية او حتى دعائية، ونرى عندها كيف ان حركة الأموال، صعودا او هبوطا، غير مرتبطة بالمتعارف عليه سابقا، كعملية انتاجية متكاملة من عمل،وجهد، وسوق، ومُنتج، ومواد اولية... وغيره. هناك تداول آلي لمُنتج آلي وبوسائط آلية، اي بمعنى آخر غياب تام للقواعد المتعارف عليها في نمط الإنتاج الرأسمالي التقليدي. انها عملية تجريد اقتصادية تتطلب اعادة النظر في توصيف قواعد التحديد المتعارف عليها لعمليات الإنتاج، والإستهلاك والقيمة الفائضة، اي نحن الآن امام عملية اقتصادية افتراضية ومجردة. ان تجريد حركة الأموال بهذه الطريقة، جعلها عرضة لإحتمالين: الربح السريع أوالإنهيار السريع، وهو بالضبط ما يجري في كثير من الحالات في هذه الايام، والتي يكون تجهيل الفاعل احد ابرز تجلياتها، وذلك ارتباطا بمصالح كبار الرأسمالين من جهة، وغياب المحاسبة عن مسببيها وحمايتهم من جهة اخرى. من جهة اخرى، وامام تحديات الأزمة الحالية، رأينا كيف ان بعض الحكومات قد ضخت اموالا عامة في كثير من المؤسسات والبنوك المتعثرة. لقد هلل الكثير، وخاصةً من رافضي اقتصاد السوق، لهذه الخطوة كما لو انها عودة الى شكل من اشكال النظام الإشتراكي. اظن انه استعجال لا ضرورة له. صحيح ان حكومات تلك الدول قد اشترت، او ساعدت في اصول الأموال للمرافق المتعثرة، لكن بالمقابل، هل سمعنا عن اعادة هيكلة لتلك المؤسسات بحيث يصبح فائض انتاجها مثلا مساعدا في عملية تحسين شروط معيشة المواطنين؟ او هل وضعت آليات لإعادة توزيع انتاج هذه المؤسسات؟ اقول وبكل وضوح كلا، وهنا وجب التذكير كيف ان مفهوم الدولة، في النظام العالمي الجديد، تغير من دولة "الحماية الإجتماعية" الى "سلطة القمع والضغط الإجتماعي"، لتنفيذ سياسات كبار اصحاب رأس المال، والذين بأكثريتهم في السلطة. لقد اقترن تعثر بعض المؤسسات بإجراءات صرف للعمال للحد من الإنفاق، لقد اعطت الحكومات هذه المؤسسات اموالا، ولكن الصرف استمر، وذلك تحت حجة حصر الإنفاق. لكن المفاجأة-الفضيحة- ان اكثرية هذه المؤسسات، وخاصة الكبرى من مصرفية وغيرها، قد زادت من عملية صرف العمال، وزادت ايضا من معاشات وعلاوات كبار موظفيها في نفس الوقت، وكأن المال العام المدفوع من قبل دافعي الضرائب، لا يعرف الا طريق جيوب كبار الرأسمالين. هكذا بكل بساطة تذهب الأموال الى مكانها الطبيعي، اي الى سوق المضاربات وجيوب كبار الرأسمالين وداعميهم، وهذا ما جرى مؤخرا في العديد من الدول. الإعتبار الثاني، الأزمات الإجتماعية وصعود التطرف: من المؤكد ان احد نتائج الأزمة المالية واخطرها، وحتى اصعبها هو الجانب الإجتماعي، وذلك ارتباطا بمدى ومعدل التأثيرات، سواء من حيث النتائج المباشرة، أو غير المباشرة. ان تداعيات اي ازمة مالية او اقتصادية، ستنعكس بشكل عام على مجمل نمط الحياة الإجتماعية، وذلك لإرتباط العمليات الإنتاجية والإستهلاكية بعضها ببعض، اذن بهذا المنظور سيكون التأثير الأول. اما التأثير الثاني فإنه اكثر خطورة، لما له من نتائج مباشرة، أو لما له من اسباب ايضا مؤذية ومباشرة. إن أول اجراء تلجأ اليه ادارة المصناع، أو المرافق، أو مديري المؤسسات، أو حتى الحكومات، لتخفيف وطأة الأزمة او تداعياتها، هو حصر النفقات، والحد من المصاريف، وهذا أمر طبيعي، ولكن من غير الطبيعي أن تحصر هذا العملية فقط بفئة معينة، وأقصد بها العمال. اذن اول هذه الإجراءات هي صرف العمال، اي اول نتائج الأزمة هو وضع ملايين من العمال في الشارع، تحت "يافطة" "عاطلين عن العمل". هذا الإجراء يعطي الإنطباع الأولي، كما لو ان الرأسمالية، في خلفيات ومكنونات مخزونها الفكري والايديولوجي، استحضرت عداءها التاريخي مع الطبقة العاملة. من هنا يمكن القول ان هذا الإجراء له مدلولاته الإقتصادية، وايضا الإجتماعية. فماذا يعني فقدان ملايين الوظائف في مدة قصيرة؟ وماذا يعني وضع ملايين الاشخاص في الشارع مع عائلاتهم؟ انه سيكون وبلا شك وبكل تأكيد كارثيًا من الناحية الإقتصادية، والعائلية، والإجتماعية. من هنا نلاحظ القضية الثانية، وهي كيف ان حكومات تلك البلدان قد انفقت مليارات الدولارات، لكن دون ان تمنع هذه الكارثة، او حتى الحد منها وهذا امر يدعو الى الريبة!! اذن بالأساس نحن امام ازمة اقتصادية والآن اجتماعية. سأناقش تداعياتها ليس من باب فقدان العمل كمردود اقتصادي، يضمن حياة العائلة، لأن ذلك واضح وجلي في نتائجه. لكن سأتناول المردود السياسي المرتبط بهذه العملية، وهو بالمناسبة لا يقل خطورة عن الأول. ان فقدان الوظائف هو امر خطير بطبيعته، نظرا لإرتباطه بالأمن الإجتماعي، اذن في هكذا حالات، تلجأ تلك الإدارات الى واحد من امرين: اما الإقفال التام، واما التفتيش عن ايدٍ عاملة رخيصة، وان هذه الأخيرة يمكن ان تزداد، خاصة في غياب اي تشريعات، تساوي في اجر العامل، او التقديمات الإجتماعية بين الدول، او حتى ضمن المنظومة الواحدة ( الاتحاد الأوروبي مثلا)، فيلجأ رب العمل الى استقدام العمالة الأجنبية، او الهجرة مع راسماله الى البلدان الأقل كلفة للإنتاج، وهذه الظواهر كثيرة في العقود الأخيرة. النتيجة في كلتا الحالتين هو تفشي ظاهرة التفكك الإجتماعي، والتناقض الاجتماعي، وصعود حالات من العنصرية ضد الأجانب، او لنقل حالات من التطرف. مرد هذه الظواهر يعود لإعتبارات متعددة، منها الشعور بأن هذا العامل المستقدم، قد اخذ مكان العامل المحلي، او تلك الدول التي هاجر اليها رأس المال ايضا، هي من اسباب خسارتهم لمعاملهم وابواب رزقهم. هذا الواقع سينتج، وقد انتج صعودا ملحوظا للقوى السياسية، التي تستغل هذا الواقع لطرح شعارات اكثر عنصرية وتشددا ضد الأجانب. هذا اذا ما اضفنا اليها الحالة العامة السياسية في العالم، المستجدة ما بعد احداث 11 ايلول، نلاحظ الصعود السياسي اليميني المتطرف، مع خطابه السياسي ومجاهرته بعنصريته وتطرفه. كما ان حالة القوى السياسية المناهضة وضعفها، نتيجة سلوكها المتعثر في المحافظة على حاضنتها الشعبية التاريخية، وسياساتها المتمثلة بالإنحياز الى الطبقات الإجتماعية الفقيرة، لوجدنا واستنتجنا بان هذا "العامل-المواطن"، قد وقع بين فكي كماشة الرأسمالية المتوحشة من جهة، والتطرف والعنصرية من جهة اخرى، وهنا لن اطرح السؤال، الى اي جانب سينحاز او اي موقف سيتخذ؟ لأنه سؤال مؤلم في طرحه واجابته. فهل يستحي اهل اليسار؟؟؟ الإعتبار الثالث، الإرتباط ما بين الديمقراطية والرأسمالية: ان تداعيات الأزمة الإقتصادية لا تقف عند حد الإعتبارات الإقتصادية والإجتماعية، بل تتعداها الى الجوانب السياسية، خاصة فيما خص شكل الحكم وطريقته. ان النتائج المفترضة عن الواقع الإجتماعي، وكما ذكرنا، ستؤدي الى احتدام الصراع الإجتماعي، ولكن بشعارات واعتبارات سياسية، هذا الواقع سيفرض نفسه على طريقة التعاطي، سواء مع صعود التطرف، او ردات الفعل على هذا الصعود. لقد تلازم الخطاب السياسي للرأسمالية مع الديمقراطية، وحقوق الإنسان، منذ اكثر من قرن، وخاصة خلال عقود الحرب الباردة. لقد اصبح هذا التلازم من ضرورات المواجهة. فكانت ان احسنت الرأسمالية ادارة معركتها بتبنيها لخطاب الديمقراطية، واستدرجت خصومها الى موقع الدفاع عن النفس، ورد التهمة فيما يخص هذه القضية. اذن اندافعة الرأسمالية بتبنيها ولو زورا، والتزامها ولو لفظا، بهذا المفهوم، جعل منه مفهوما "مؤشكلا" في المعنى والأهداف. ان انهيار مشروع اشتراكية الدولة، التي حاول الإتحاد السوفياتي صياغتها في السياسة والإقتصاد، اعطى الإنطباع بإنتصار رأسمالية العالم الحر، مع كل مندرجاتها. فإذا كان تلازم الرأسمالية مع الديمقراطية هو "اشكال" بحد ذاته، فاليوم هذه الرأسمالية في ازمة، يعني ذلك، ان الديمقراطية ستكون هي الأخرى في ازمة بحكم المنطق الشكلي. لكن السؤال هل فعلا ستكون الديمقراطية في ازمة؟ في الإجابة: لا تلازم ما بين الديمقراطية والرأسمالية من حيث مضمون كل منهما، وبهذا المعنى لا ازمة للديمقراطية ارتباطا بأزمة الأولى، ولكن بالمقابل، نتائج الأزمة الحالية سترتب وضعية جديدة في مقاربة نمط العلاقات الإجتماعية والسياسية، وكما ذكرنا سابقا، ارتباط الأزمة بصعود التطرف وغيره من الأزمات الإجتماعية، سيكون بلا شك له تداعياته الكبرى ليس فقط على نمط الديمقراطية، وانما على نمط وشكل الحياة السياسية. ان اشتداد مفاعيل الأزمة، سينتج اضطرابا باتجاهين: الأول نحو الأعلى اي نحو الدولة والمؤسسات الدولية، لأنها بلا شك سيكون لوصفاتها لحل الأزمة الدور الأبرز في تفاقم الأزمات الإجتماعية، لأن تلك الوصفات دائما في غير صالح الطبقات الفقيرة، وهذا ليس بجديد، والثاني نحو الواقع المحلي المرتبط بأماكن العمل والسكن والعلاقات الإجتماعية والإنسانية. هنا سنرى ايضا مزيدًا من الفروقات الإجتماعية، ومزيدًا من ظهور حالات التقوقع و "الكنتنة"، ارتباطًا بالشعور بعدم الأمان الإجتماعي وحتى الأمني. لذلك سينتج عن هذا الواقع، مزيدٌ من الضغط في سبيل قمع تلك المظاهر. بالتالي فرض الكثير من الأمور، زيادة على ما هو مفروض اصلا بحجة محاربة الإرهاب، وايضا مزيدٌ من خنق الحريات العامة مخافة نمو "راي عام" جديد يمكن ان يتبلور في مشروع سياسي، يكون البديل لإعادة انتاج النظام السياسي بشكله العام. بناءً على ما تقدم يمكننا الإستنتاج: ان ما يحدث في العالم هو مرحلة وعملية طبيعية في تطور الرأسمالية، مرحلة عنيفة بمفاعيلها وتداعياتها، ولكن يجب النظر اليها من خلال ما سينتج عنها: بدون ادنى شك، من سيدفع ثمن هذه الأزمة هم الطبقات الفقيرة وهذا واضح وجلي. ومن سيستفيد منها هم كبار الرأسمالين والتجار واصحاب البنوك وحتى اصحاب السلطة والنفوذ، وهذا ايضا واضح. سيُعاد تمركز رأس المال بطريقة تخدم فقط مصالح اصحابه ودوله، وهذا هو الواقع. اذن هي مرحلة متقدمة و مطّورة للنظام الرأسمالي، واذا ما راجعنا ازمات الرأسمالية خلال القرن الماضي، لوجدناها متشابهة ولكن مع ذلك لم تسقط. ان المستجد اليوم في هذه الأزمة ليس طبيعتها ولا شكلها، فهي بهذا المضمون كسائر الأزمات. لكن ما استجد هو ما استخدمته من وسائل للمعالجة. لقد لجأت الى الى صرف العمال من جهة، والى استخدام المال العام لحل جزء من ازمتها من جهة اخرى، وهذا يعني انه لم يعد يكفيها احتكارها لرأس المال الخاص، وانما تعداه "لمد اليد" على المال العام، الذي هو بالمناسبة مخصص للحماية الإجتماعية للمواطنين، والذي سيؤدي الى كشف الواقع الإجتماعي وتعريته امام عنف المتحكمين بالسلطة. لقد استخدمت آليات تجميع الأموال والتمويل في يدها بشكل كليّ، مما سيؤدي الى تجميع السلطات ووسائل الضغط والحكم، لأن تجميع الأموال والتمويل يجمع ويوحد كل القوى، وهذا له ما له من مؤشرات خطرة. ستخرج الرأسمالية من هذه الأزمة اكثر شراسة، اكثر خطورة وتطرفًا، وستعمد الى مزيد من الضغط والضبط في النظم والعلاقات الدولية، والى مزيد من الربط بين اقتصاديات الدول، وضبطها لصالح تمركز رأسمالها وشركاتها العابرة للقارات، وايضا مزيدٌ من الإرتباط بشروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، المهيمن عليهما من سلطتي السلاح والمال، والمستخدمين لتنفيذ سياسة الدول الكبرى. واقع مأزوم، والحلول والمخارج المقترحة، تبقى حصريتها في يد مسببي الأزمة انفسهم. اما البديل الطبيعي فبين مصفق ومبتهج للأزمة، كما لو انها نهائية، وبين من استقال مبكرا، بعدما سقطت امتيازات الإشتراكية، من ترفيه ورحلات استجمام. وما بين التصفيق غير المنتج والإستقالة، ضاعت احلام الفقراء بمستقبل زاهر وسعيد. اكثر من مليار جائع حول العالم حاليا، ومثلهم من ينتظر، ازمة اقتصادية شاملة وعامة ولا افق حقيقياً للخروج منها، بطالة وصرف كيفي من العمل، حالة ركود اقتصادي لا سابق لها، اغراق الدول الفقيرة في الديون بشكل لا تستطيع او ليس لها القدرة على أيفائها، حروب منتشرة وستكون قريبا لأجل الماء والغذاء ولربما الهواء. هذا هو واقع العالم "المعولم" بسياساته واقتصاده، عالم ما بعد انتهاء الصراع الأيديولوجي حسب زعم اسياده، لكن بنظرة واحدة وسريعة سنكتشف بأن جوهر ما يحدث هو ايديولوجي وطبيعته ايضا، وعلى هذا الأساس يجب ان تكون المواجهة. لقد فشلت سياسة العولمة والنظام الحر وهذا جلي، اذن تبلور البديل لا يجب ان يكون من نفس الطبيعة، وبذلك نقول: آن الأوان لاعادة الأعتبار الى الطبيعة الأصلية للصراع، الى الأعتبار الأجتماعي والتناقض القائم ما بين مصلحة اكثرية من يسكنون العالم ومصالح اقلية متحكمة برأس المال والأحتكار. لقد قامت سياسة وايديولوجية الولايات المتحدة على ثلاثة ركائز: البنتاغون وما يمثله من تجسيد للقوة والجبروت والصناعة الحربية الاميركية من اسلحة دمار شامل او نووية او اساطيل وغيرها، وسلسلة مطاعم ماكدونالدز وما تمثله من ظاهرة الوجبات السريعة والوقت السريع والأمتداد السريع العابر للحدود والقارات، وهوليود مدينة صناعة السينما والافلام ولكن ايضا مصنع الدعاية للنظام والمجتمع الحر والرجل القوي الذي لا يقهر ونمط المعيشة الاميركية الهانئة والديمقراطية. يقول هنري كسنجر: "ان العولمة بكل بساطة هي سيطرة الولايات المتحدة". ما بين كلام افضل من جسد السياسة الخارجية الأمريكية ببعديها التآمري والتضليلي والثالوث السابق الذكر والعولمة الحالية امتداد لتاريخ يكرر نفسه وسياسة تستولد ذاتها ونظام يجدد آليات سيطرته. فما اشبه اليوم، بما يحمل من عنف وكذب ودعاية واستغلال، بتلك الأفلام التي انتجتها هوليود عن حرب فيتنام والتي بنهايتها كان الاميركي يربح بالحرب والسياسة والأخلاق، ويصفق له ايضا الجمهور. انها فعلا لمهزلة تاريخية. رحمة الله عليك يا كارل ماركس. د.حسن خليل عن موقع jammoul.net
آخر تعديل على Tuesday, 01 September 2009 11:26

الأكثر قراءة