جعفر العطاريستغرب شاب عشريني، وقف في ساحة ساسين أمس بانتظار وصول صديقه من البقاع، سؤال ابن عمه في مكالمة هاتفية: «كيف أستطيع الالتحاق بالمسيرة؟ أنا في منطقة الكفاءات». يتلعثم الشاب، في أثناء إرشاد «ابن العم» على الوجهة التي ينبغي اعتمادها.يصل ابن البقاع، في حافلة ضمت أكثر من عشرة أشخاص، متجهاً نحو صديقه، الذي أردف قبل السلام: «تخيّل أن جلال يريد المشاركة في المسيرة، وهو في طريقه الآن مع زوجته وأولاده؟». تُرسم علامة استغراب على وجه البقاعي، قائلاً: «منذ أسبوع كان يسخر منّا. سبحان مغيّر الأحوال».تبدو أعداد الحشود، التي تشارك في مسيرة إسقاط النظام الطائفي الثالثة منذ مسيرة المطر، شبه ضبابية، قبل نصف ساعة من الموعد الذي حدد عند الثانية عشرة ظهراً. «طقوس» ما قبل مسيرة أمس، هي ذاتها طقوس ما قبل مسيرة الدورة: هرج ومرج، مصحوب بشعارات إسقاط النظام، وانتظار سماع صافرة الانطلاق.تتوسط دورية للجيش اللبناني الساحة، فيما تتوزع عناصر قوى الأمن الداخلي على مقدمة المسيرة. تتردد في الأفق هتافات المسيرة المعروفة: «الشعب.. يريد.. إسقاط النظام»، و»ع الطائفية.. ثورة.. ع المحسوبية.. ثورة.. ع الإقطاعية.. ثورة.. ع الحرامية.. ثورة»، قبل أن تعلو الهتافات بصوت واحد: «ثورة.. ثورة.. ثورة».يقترب رجل ثلاثيني، اسمه أبو محمود، وقد وصل من عكار، نحو شاب رفع لافتة تطالب بطرد كل زعماء الطوائف من لبنان، ليسأله: «كيف نستطيع أن نطرد من جثم على صدورنا لأكثر من ثلاثين عاماً؟»، فيجيبه: «لا أدري. لكن لبنان لن ينهض من لوثته، إلا عندما يطردون كل هؤلاء».يبتسم الرجل ابتسامة ماكرة، ويربت على كتف الشاب الذي رسم علم لبنان على وجنتيه، معلناً «أنا أيضاً أريد أن نتخلّص منهم. لكني أبحث عن وسيلة، غير التظاهر ورفع اللافتات. هل ثمة وسيلة أخرى برأيك؟». يرمقه الشاب بنظرة سريعة، فيصرخ، مع المشاركين: «الشعب يريد إسقاط النظام»، فيما يتوجه الرجل ناحية شاب آخر.تنطلق المسيرة خلف سيارة متصدعة من نوع «بيك ـ أب»، تقودها سيدة أربعينية جلس إلى جانبها طفل أشقر، فيتضح أن المحتشدين في الساحة هم «ذيل» التظاهرة، فيما الأعداد الأكثر مشاركةً تتقدم الساحة بأمتار. تسير، مقسمة إلى مجموعات، لكل منها شخص يهتف، والأشخاص يرددون خلفه.تحتشد، أمام السيارة، مجموعة مؤلفة من العشرات، تهتف بأصوات لا تشبه في قوّتها أصوات الخلف: أمهات يمسكن بعربات تحوي أطفالاً، منهم من يحمل علم لبنان، ومنهم من يعبّر عما يريد بورقة ضمّها إلى صدره «أنا مستقبل لبنان»، فيما تقول أخرى: «أنا طفل وما تعلّمت الحكي. بس ما بدّي اتعلم لغة الطوائف».يصل المشاركون إلى منطقة بشارة الخوري، وتبدأ التكهنات حول الأعداد المشاركة، تزامناً مع وضوح المشهد. تتأرجح الأرقام، من خمسة عشر ألفاً، إلى عشرين ألفا، وصولاً إلى ثلاثين ألفاً. غير أن القاسم المشترك، في الآراء التي سارعت للتكهن، يكمن في اتفاق على أن المشاركين في مسيرة أمس، هم أكثر بكثير من المشاركين بمسيرة الدورة.تتكرر، مع كل خطوة، النداءات الموجهة لـ»الواقف ع البلكون... انزل ولاقي شعبك هون»، فتقابل بجمود من المنادى عليه حيناً، وبحماسة تُرفع معها القبضات، وينثر الأرز في أحيان أخرى. يرفع رجل ثلاثيني لافتة كتب عليها: «أكلت فروج مشوي، وما عرفت طائفتو. سامحني يا الله».ينتقل المشاركون من منطقة «الملا»، متوجهين إلى وزارة الداخلية في الصنائع. تردد إحدى المجموعات، بصوت أنثوي، «الأم تريد إسقاط النظام»، كدلالة على هدية عيد الأم، وتقول كارول إنها شاركت بالتظاهرة «من أجل إسقاط الطائفية، ولأقول لأمي شكراً لأنها لم تربّني على الطائفية».ثمة وجوه دينية، وأخرى حزبية، تصرّ على استقلاليتها، مؤكدة أنها تشارك اقتناعاً منها بوجوب تغيير النظام الطائفي في البلد. محمد بلوط، المسؤول الإعلامي في مجلس النواب، يتقدم المسيرة، في مشاركته الثانية بعد مسيرة الدورة.يصرّ بلوط، خلافاً لما هو معروف، بأنه غير منظّم في «حركة أمل». يقول الرجل: «المظاهرة غير محسوبة على أي تنظيم سياسي. وأنا مواطن لبناني، أؤمن بضرورة تغيير النظام الطائفي». يستغرب بلّوط «ما يقال عن أن حركة أمل ترفض المشاركة. فقد شاهدت عدداً من الشبان المنظمين في الحركة يشاركون بالمسيرة اليوم، مثلهم مثل بعض الشبان المحسوبين على «تيار المستقبل» المشاركين علناً».يستيقظ طفل غفا على كتف والده، ما إن تحطّ المسيرة رحالها قبالة مبنى وزارة الداخلية، وبالقرب من خيمة إسقاط النظام الطائفي.يحمل الأب علم لبنان، ويطلب من الطفل أن يرفعه، فيفعل مغمغماً حروف الثاء والواو والراء، من دون لفظ التاء المربوطة.وفيما بدأ المشاركون بتجهيز أنفسهم للمغادرة، عند الثالثة إلا ربعا، شرعت إحدى الزميلات في تلفزيون «أخبار المستقبل» بنقل رسالتها التلفزيونية، بالقرب من الخيمة، ووسط حشود تجمهرت حولها. ترتبك الفتاة من الهتافات: «الشعب.. يريد.. الستين مليار!». تنتظر لبرهة هدوء الهتافات، فيتحول الصوت إلى صراخ: «بدّنا الستين مليار.. بدّنا الستين مليار». تنتقل، مع المصوّر، تجاه مدخل الوزارة، وتنقل رسالتها من ناحية القوى الأمنية.يرتفع من المسجد المقابل للوزارة صوت آيات من القرآن الكريم، إيذاناً بأذان العصر. تحلّ، للحظات، دقيقة أشبه بدقيقة صمت بين المحتشدين. «ثورة.. ثورة.. ثورة» يعلو الصوت، فيقابله صوت آخر يطلب «التريث لحين انتهاء الأذان، احتراماً للمصلين في المسجد».يخفّ صدى الهـتافات، بينما تصرّ فتاة عشرينية على ترديد شعار إسقاط النظام الطائفي، من مكبّر الصوت الذي رفعته، فيُسمع صدى صــوتها، وبعض الأصوات القليلة التي رفضت سماع صــوت القرآن، أو أنها لم تشأ الانتظار. يُرفع الأذان، وتنتهي المسيرة بالنشيد الوطني اللبناني. يعود الطفل ليغفو على كتف والده، والعلم مرفوع من قبضة يده الصغيرة.

انتظر رجل أشيب الشعر، بهدوء مضطرب، دوره في التعليق. ولمّا جاء دوره، انتفض حاملاً مكبّر الصوت، وقال: «61 عاماً، وأنا في انتظار هذه اللحظة. لقد هرمت، وغزا الشيب شعري، وأنا أنتظرها. حافظوا عليها. شكراً». بدت مداخلة الرجل، في الاجتماع المفتوح الذي عقد في «الأونيسكو» أمس، قبل أربع ساعات من مسيرة إسقاط النظام الطائفي، أشبه بشحنة كهربائية هزّت أصحاب المداخلات الحماسية ذات العناوين العريضة، قبل توجههم إلى جسر الدورة، للانطلاق في المسيرة التي تخطى عدد المشاركين فيها العشرة آلاف، من مختلف الأعمار و»الانتماءات» الجغرافية. كان المشاركون في الاجتماع يعلّقون، بمدة زمنية لا تتخطى الدقيقة الواحدة، على المطالب التي عرضت على شاشة عملاقة، لتحاكي ما يصبون إلى تحقيقه، من إسقاط النظام الطائفي وصولاً إلى حلّ مجلس النواب. واحد وعشرون مطلباً تردد صداها في القاعة، وأكثر من خمسين مداخلة عبّر أصحابها فيها عن آرائهم، حول ما سمعوه وشاهدوه. على الرغم من ضيق مساحتها، فإن القاعة لم تمتلئ. جلوس، ووقوف. صراخ وتصفيق. شجب لرأي، وإثناء على رأي آخر. فهذا يؤيد شرحا لمفهوم العلمانية، وذاك يؤيد انتزاع المطالب من الأفواه وليس انتظار صدورها. حماسة عارمة طافت في أرجاء القاعة، وفوضى لا مفرّ من وقوعها، وقعت في اجتماع مفتوح، سبق النزول إلى الشارع. إلى المسيرة، إذاً. بدأ المشاركون في المسيرة، بالتوافد إلى جسر الدورة، عند الثانية بعد الظهر. يتمهل سائق حافلة كبيرة بمحاذاة الجسر، محدّقاً باتجاه الوفود المتجمهرة، واللافتات التي رفعوها. يعلن السائق، بصراحة عفوية، للركّاب: «أعتذر منكم، لكنني مضطر للترجل، والانضمام إليهم. يمكنكم المشاركة، وأنا أتكفل بتوصيلكم». كدرع بشري، وقف المشاركون حول المستديرة ينتظرون وصول بقية المتظاهرين. درع عفوي، لازم المشاركين الحانقين على النظام، من انطلاقتها إلى ختامها. وفي الدرع، داخل الدائرة، كانوا يحتفلون ويرفعون الصوت: ثورة. كانت كلمة «ثورة» تثور، مع كل دقيقة تمرّ، على ثوارها، فتزداد قوّتها وتضحي أكثر ترداداً: ثورة.. ثورة.. ثورة. تحت الجسر، وقف رجلان، رفع أحدهما لافتة، كتب عليها: «نريد إسقاط النظام الطائفي»، بينما رفع الثاني لافتة «لماذا لا توجد كهرباء.. إلا في خطاباتهم؟». صاحب اللافتة الثانية أستاذ في جامعة «البلمند». وقف وصديقه، مزهوين. كانا أشبه بوسيلة إعلانية بسيطة، تريد الترويج لفكرة، من دون أن تثبت لافتات عملاقة على الطرقات، بل توجهها إلى الناس مباشرة. كانا يتحدثان، باقتضاب، مع سائقي السيارات: «نحن ضد 8 وضد 14. نحن نريد استعادة حقوقنا. هيا، ترجلوا وانضموا إلينا في المسيرة». ثمة من انضم مبتسماً، وثمة من رفع شارة النصر وأكمل سيره. تصل سيدة خمسينية، لفّت منديلاً أبيض اللون حول رأسها، عند الثالثة إلا ربع. راحت تجول بين الحشود، كأم أضاعت طفلها في هرج ومرج. كانت تبحث عن لافتة لترفعها، فطلبت من فتاة عشرينية شقراء أن تكتب لها، كيفما اتفق، عبارة: «أنا أريد الاعتذار من شباب لبنان. أنا أريد الاعتذار من أولادي. أنا العجوز التي كنت أضحك عليكم. أنا العجوز التي هزئت من أفكاركم يوماً». بكت الفتاة، وكتبت لها: «أنا الأم التي أحبتكم». عند الساعة الثالثة والخمس دقائق، بدأ المنظمون بتجميع المشاركين خلف اللافتة العملاقة، التي كتب عليها باللونين الأبيض والأسود: «من أجل دولة ديمقراطية علمانية». آليات الجيش اللبناني انتشرت حول المستديرة، وأمامهم سيارات قوى الأمن الداخلي، وبينهما طفلة تقول، في اللافتة التي رفعتها: «نعم، نستطيع استعادة رغيفنا المسلوب». قبل خمس دقائق من انطلاق المسيرة، سأل شاب أتٍ من صور، صديقه: «برأيك، هل وصل عددنا إلى أكثر من ألفي شخص؟»، فردّ عليه الشاب بنبرة واثقة: «كلا. يبدو أننا أقل من مسيرة الأحد الماطر. الله يستر». غير أن رجلاً سبعينياً، سمح لنفسه بالتدخل في نقاشهما، قال بلكنته البقاعية أنه من الصعب تقدير العدد قبل الانطلاق، فأخمد نار التوجس في صدري الشابين. توزعت الدروع البشرية كطوق حماية وحركة تنظيمية، حول المشاركين، عند الثالثة والربع، إيذاناً بالانطلاق باتجاه شركة الكهرباء. هنا، اللافتات تعبّر عن جوارح أصحابها وأحلامهم، مجترحة تعابير عفوية تصيب قارئها بسهم يحتم عليه التحديق، والتفكير. كمسيرة الأحد الماطر، مشى هؤلاء أمس. غير أنهم مشوا في منطقة أخرى، ذات طابع آخر، بسبب هدوء شارع الدورة سياسياً، وغروب شمس السياسة الطاحنة في برج حمود، فيما لمار مخايل معاركها المعروفة، إذ رفع فيها السلاح أكثر من مرة بأيدٍ كثيرة وفي وجوه كثيرة. وجوه أمس كانت مختلفة عن مسيرة الأحد. وجوه جديدة، يافعة ومسنة. وجوه غضبت من تعثر مشاركتها في مسيرة المطر، فنزلت أمس. نزلت وفيها ما يكفيها من حماسة التغيير. فيها ما يكفيها من السأم والمطالبة، وانتظار خطاب هذا الزعيم، أو ذاك الرئيس. أمس، قالت، بصدر مرفوع: «نحن نريد». أرادوا إسقاط النظام الطائفي، وبناء المصانع، وتحديث الزراعة، وتأمين الوظائف، وإقرار الزواج المدني. مشوا، مرددين شعارات الثورة، ومستمعين لأغاني الثورة. قالوا: «الويل لأمة كثرت فيها الطوائف»، فنثر الأرز من شرفات شارع الدورة الفرعي. قالوا: «الصلاة للرب الخالق.. وليس للزعيم المارق»، فرفعت قبضات النصر من الشرفات. كان المتجمهرون خارج المسيرة، في شارع برج حمود الرئيسي، يبحثون عن أصحاب الدعوة وانتماءاتهم، فجالت أبصارهم على الأعلام المرفوعة، علّهم يتعرّفون إلى هوية الدّاعي، فوجدوا أعلام لبنان ترفرف في الهواء الطلق. سألوا: «من هؤلاء؟».. «شباب لبنان»، جاءهم الجواب. «لكن شباب لبنان موزعون في أحزابهم»، قال ستيني وقف أمام دكانه، فردّ عليه شاب فارع القامة: «كلا يا عم. نحن شباب لبنان. وأولئك سيلحقون بنا، بعدما ينتزعون عن أنفسهم عباءة زعيمهم. سيلحقون بنا يا عمّ». بين الدقيقة والأخرى، كانت الفتاة الإعلامية التي حملت مكبّر الصوت، تصرخ بصوتها الرنّان: «أنت الواقف على شرفتك، تعال ولاقي شعبك هنا»، فيردد المشاركون وراءها الشعار، فيما الموجهة إليهم الدعوة كانوا يرقصون من شرفاتهم، ويزغردون. مشوا، وحمل بعضهم الآخرين على الأكتاف، ولثم الآخر من تفاجأ بانضمامه إلى المسيرة. وزعوا القبلات في الهواء، وقالوا في ما بينهم، كاتفاق لا رجعة عنه، بأنهم لن يقبلوا بأي رجل سياسي، مهما كبر أو صغر شأنه، بأن ينضم إليهم. رفعوا أصواتهم عالياً، وفي موسيقاها الرنّان ضمير الـ»نحن»: «نحن نريد استعادة حقوقنا المسلوبة. نحن نريد دولة تفصل الدين عنها».

واصل الشباب اللبناني المناهض للنظام الطائفي «مغامرته»، ونظم للمرة الثانية خلال أسبوع تظاهرة ضد هذا النظام، شارك فيها حوالى 10 آلاف شخص، وهو عدد مضاعف مرات عدة عن الرقم الذي سجل في تظاهرة الاحد الماضي والتي بلغت نسبة المشاركة فيها قرابة الألفي شخص، ما يعكس نجاح التحرك في استقطاب المزيد من المؤيدين والمتعاطفين، وما يؤشر الى ان كرة الثلج تكبر شيئاً فشيئاً مع تدحرجها، بحيث لن يكون بمستطاع أهل النظام الاستمرار في تجاهلها. وقد انطلقت مسيرة الأمس من مستديرة جسر الدورة، باتجاه مبنى شركة الكهرباء في الجميّزة، وحمل المتظاهرون لافتات عبّرت بوضوح عن توقهم الى إسقاط النظام الطائفي، من خلال التحركات التي سينفذونها تباعاً. وبدا لافتاً للانتباه تجاوب المواطنين غير المشاركين في المسيرة، مع الشعارات التي أطلقها المتظاهرون، فثمة من انضم إليهم على الطريق، وثمة من رفع لهم شارة النصر، فيما راح آخرون يرشقونهم بالأرز ( راجع ص 6 ). وبينما كان الشباب اللبناني يطلق صرخته ضد الطائفية، كانت قوى 14 آذار تواصل معركتها السياسية والإعلامية «من طرف واحد» ضد السلاح، وسط استمرار حالة ضبط النفس لدى حزب الله الذي قرر ان يخوض معركته في الساحة التي يختارها هو، ولا يفرضها عليه الآخرون، فتجاهل حملة 14 آذار ليصوّب في المقابل على «الطلبات المشبوهة» للمدعي العام الدولي دانيال بيلمار والتي أعادت تحريك ملف المحكمة الدولية، وسط تسريبات عن احتمال الإعلان عن القرار الاتهامي قبل مهرجان قوى 14 آذار الاحد المقبل، ليكون جزءاً من ذخيرتها التعبوية. وفي سياق متصل، قالت مصادر مطلعة على موقف الرئيس المكلف نجيب ميقاتي لـ«السفير»، إن استخدام موضوع طلبات بيلمار في الصراع الداخلي هدفه التجييش لحشد الجمهور في 13 آذار، وجر ميقاتي الى سجال لا يريده، وإلزامه بتعهدات مسبقة، وتحميله مسؤولية ما يمكن أن يحصل، علماً أنه دستورياً مسؤول فقط عن تشكيل الحكومة، لا عن اي قرارات او توجهات رسمية للبنان هي من مسؤولية حكومة تصريف الأعمال. ومن ناحيتها، قالت أوساط بارزة في المعارضة الجديدة لـ«السفير» إن أولويتها حالياً تنحصر في تأمين أفضل الظروف الممكنة لإنجاح الدعوة الى الحشد الشعبي، مشيرة الى ان المؤشرات جيدة حتى الآن ومتوقعة حضوراً كبيراً قد يتجاوز ما سجل في السنوات الماضية. الحكومة.. مؤجلة؟ في هذه الأثناء، لم يطرأ جديد بارز على طبخة الحكومة التي لم تنضج بعد، في ظل ارتفاع منسوب التكهنات بتأجيل تشكيلها الى ما بعد مهرجان 13 آذار وصدور القرار الاتهامي، فيما أبلغ مرجع واسع الإطلاع «السفير» انه يتوقع ان يُطلق الرئيس المكلف جولة جديدة من المشاورات السياسية في الأيام المقبلة، وخصوصاً على خط العماد ميشال عون، ولكنه استبعد إنجاز عملية التأليف خلال هذا الاسبوع. بري: معركة السلاح عبثية وقال رئيس مجلس النواب نبيه بري لـ«السفير» إن الحكومة «تحت الدرس» ولا تواجهها مشكلات غير قابلة للحل، لافتاً الانتباه الى ان «الرئيس ميقاتي باله طويل ويتقن فن تدوير الزوايا». وعما إذا كان الخلاف على حصة رئيس الجمهورية ميشال سليمان يؤخر تشكيل الحكومة، أكد بري ان لا أحد يرفض ان تكون هناك حصة للرئيس سليمان، بمن في ذلك العماد ميشال عون، ولكن هناك آراء تتعلق بنوعيتها. وشدد بري على ان المعركة التي يخوضها البعض ضد سلاح المقاومة هي عبثية ومن دون أي أفق سياسي أو وطني، مشيراً الى ان البلد غير الطائفي يقدس المقاومة، أما في لبنان، فإن الطائفية البغيضة تتحكم بمواقف البعض ومصالحه. وتوقف عند خطورة ما يجري في الخارج بتواطؤ وتحريض من فئات في الداخل، مستشهداً بما كشفه الرئيس ميقاتي، الذي هو موضع ثقة، عن عمل دؤوب يجري لاستصدار قرار تحت الفصل السابع ضد لبنان. وأشاد بري بالتظاهرة الحاشدة للشباب اللبناني للمطالبة بإسقاط النظام الطائفي الذي يشكل اصل العلة في لبنان، قائلا: كلنا نبحر في سفينة مثقوبة نخرتها الطائفية وتغرق شيئاً فشيئاً، بالتالي فإن تحرك هؤلاء الشباب هو بمثابة قارب النجاة الذي يمكن ان ينقذنا جميعاً وينقذ البلد.

جعفر العطار من حناجر حانقة، غاضبة وسعيدة في آن، كانوا يصرخون: «ثورة ثورة في كل مكان.. جاء دورك يا لبنان». اتفقوا على اللقاء قبالة كنيسة «مار مخايل» في الشياح، ليتوجهوا منها في مسيرة ضمت أكثر من ألفي «مواطن ومواطنة»، إلى قصر العدل، ليقولوا ما يرمون إلى تحقيقه: «نحن مواطنون ومواطنات نتحرك ضد النظام الطائفي ورموزه، وضد الفقر والتهميش، وضد البطالة والهجرة». رفعوا شعاراتهم، ورددوا هتافاتهم المطالبة بدولة علمانية، والعيش الكريم لكل المواطنين. معظمهم لم يكن على معــرفة بالآخر، إلا من خلال شــاشة الكومبيوتر، ولوحــة المفاتيح (keyboard) التي نقــلت عبارات تتــفق، أو تختلــف، مع الآخــر. هــناك، تعرّفوا إلى شركائــهم في ما يطلـبون، فمشوا تحـت زخـات المطر، وبلا طــوائف. لم تأخذهم ثورة تونس ومصر وليــبيا إلى أحــلام كبيرة، فلم يطالبوا بإسـقاط الطاغية. أخذوا من مصر فكرة شبابها «الالكترونية»، وتلمــسوا منها طعــم الانــتصار في تحقيق الحلم. لم يحلموا، بل طــالبوا بما لم يطالب به الجــيل الذي سبقنا، والــذي صــار حلماً، فقرروا كسر جداره أمــس. غنّوا النشيــد المصري في خطــوة المســيرة الأولى، ورددوا النشـيد اللبناني مع الختــام. والقــصة التي بدأت، كــما قالوا، لم تنــته بـعد... ما إن ترجل الشاب العشريني من سيارة الأجرة، عند الجهة المقابلة لكنيسة مار مخايل، حتى رُسمت علامات الأسى على محياه. كانت الساعة الثانية عشرة والربع، فيما كان موعد المسيرة قد حدد عند تمام الثانية عشرة ظهراً. ببصره، جال الشاب، الذي أتى من بيصور للمشاركة في مسيرة إسقاط النظام الطائفي، على مدخل الكنيسة، فرأى سيدة متشحة بالسواد. «لم يصلوا بعد؟»، سألها. يشتد هطول المطر، بغزارة شباط المعروفة. «ثمة مجموعة وصلت، وهي في قاعة الكنيسة. تفضل»، أجابته السيدة، فأردف بنبرة تشوبها الأسى المرسوم على وجهه: «لقد شعرت، منذ الصباح، بأن المطر سيحول دون مجيئهم». وفيما كان يقفل راجعاً، سمع شاباً يهرول صارخاً في حديث على هاتفه الخلوي: «نعم، نعم، دقيقتان وأنضم إلى المسيرة، على الطريق». تغيرت سحنة الشاب، وشرع يركض وراء صاحب المكالمة الهاتفية في شارع صيدا القديمة، فيما رأسه متحرر من المظلة، التي ربما نسي أن يفتحها. كان يركض بين السيارات، مقتفياً أثر «دليله» إلى المسيرة. «ثمة سيارة لقوى الأمن الداخلي. إنني أسمع هتافاتهم، ها هم هنا!»، صرخ الشاب بوجه «الدليل»، قبل أن تتسلل دموعه إلى وجنتيه، وتمتزج مع حبّات المطر، في أثناء انضمامه إلى المسيرة. «ثورة.. ثورة.. ثورة!»، كان يردد، كمن عثر على ضالته، التي كان قاب قوسين أو أدنى من أن يضلها، بعد حديثه مع السيدة التي ظنّت أنه يسألها عن برنامج الكنيسة. تهطل حبّات المطر بقوة، مع كل دقيقة تمر، بينما أفراد المسيرة يملأون فضاء الصوت برفض النظام الطائفي. لا أجهزة لاسلكية تنقل تعليمات «الأمن» هنا، ولا أسلحة تحمي مسؤولا وصل للتو، ولا سيارات فارهة تركن إلى جانب الطريق ليترجل منها نائب «الزعيم»، ولا أعلام تحاكي انتماء حزب أو تيار. ثمة علم واحد: لبنان، ومظلات تحمي الرؤوس من الأمطار، وشارة علقت على ياقة المنظمين «مواطن منظم». يتردد، بين الحين والآخر، هتاف يحمل مضمون الهتافات الباقية، التي ترمي إلى التعبير عن رفضها للنظام الطائفي، ومطالبتها بما كان مستحيلاً، وصار قابلاً للتفكير به جهاراً بعد قصص كتبتها تونس ومصر وليبيا: الثورة. يقولونها، بصوت موحد، قبل أن «يعزفوا» العبارة الشهيرة من حناجر حانقة: «الشعب.. يريد.. إسقاط النظام». يمرّ المشاركون في شارع صيدا القديمة، مرددين أكثر من هتاف. ثمة طفلة، لم تبلغ الثلاثة أعوام بعد، تحدّق من فوق كتف والدتها، بالوجوه التي تصادفها. تحاول الأم أن تحمي رأس ابنتها، فتركز المظلة فوق رأسها، وتهتف بأعلى صوتها، أكثر من مرة: «ثورة.. ثورة.. ثورة». تخرج حروف متقطعة، غير واضحة، من فم الفتاة اللوزي الشكل، يُسمع منها حرفا الثاء والواو. يتحول الطرف الأخير من الشارع، إلى مستنقع أفقي فيه مياه موحلة، يصعب الفرار منها، حتى ولو بالالتفاف حولها. يبدو مشهد تخطّي المشاركين بركة المياه، أشبه بمن يجتاز النهر من ضفة إلى أخرى، أو من شاطئ بحر إلى شاطئ آخر. وهم، في اجتيازهم، سعداء: لا يكترثون للبلل الذي يجتاح أقدامهم، ولا للمطر الذي يتساقط على رؤوس بعضهم. كأنهم، في ما يفعلون، يقولون ما خجلوا عن إعلانه جهاراً، خشية من إقحام أنفسهم في لعبة التبجح: «نحن مصرّون على مطالبنا. إننا نعبر من ضفة إلى ضفة، ونريد الخلاص من ضفتكم التي تربينا عليها، ويئسنا منها، لنصل إلى ضفتنا التي حلمنا بها، ولو تحت المطر، وبين الوحل.. مع أطفالنا وشبابنا». تظهر علامات الفرح على وجوهم، من كبارهم إلى صغارهم. ثمة رجل ستيني يهم بالركض بين المشاركين، ليصل إلى مقدمة المسيرة. تترنح قبعته المستديرة مع كل خطوة تسبق الوصول. يصل، ويبدأ بإطلاق هتافات مدوية، سرعان ما يرددها الحشد خلفه: «نريد دولة مدنية. ثورة على الطائفية. ثورة على المحسوبية. ثورة على الاستغلال. ثورة على الزعماء». تتغير، بين الدقيقة والأخرى، وجوه الشبان الذين تناوبوا على الصعود إلى سيارة الـ»بيك أب»، بغية تولي مهمة إطلاق الهتافات. يتناول الناشط في «اتحاد الشباب الديموقراطي» عربي عنداري المظلة من يد مصوّر فوتوغرافي تسلق السيارة، ويثبتها فوق رأس المصوّر، فيما رأسه مكشوف للأمطار الغزيرة. تتنقل سيدة خمسينية بمعطفها الأسود، بين السيارات التي تسير عند الجهة المحاذية للمسيرة في شارع سامي الصلح، وفي إحدى يديها رزمة من الأوراق. تعكف السيدة على توزيع قصاصات الورق على سائقي السيارات، بنشاط يبدو واضحاً من حركة تنقلها، وسرعة توزيعها لما تحمل في يدها السمراء. تتولى زميلة شابة تعمل في إحدى الإذاعات المحلية، مهمة إطلاق الهتافات في مقدمة المسيرة. تحمل الفتاة علم لبنان بيد، وترفع قبضتها باليد الأخرى، قبل أن تصرخ بصوت أنثوي رنّان، والوجه موجه لمن تخاطب: «يلّي قاعد ع البلكون.. انزل ولاقي شعبك هون». يرفع رجل وقف على شرفته، شارة النصر رداً على الهتافات، بينما تجاهل كثيرون ما يسمعون، أو أنهم لم يعرفوا ماذا يقولون أو كيف يعبّرون. يتوقف تساقط المطر عشر دقائق، قبل وصول الحشود إلى قصر العدل، حيث النقطة الأخيرة للمسيرة. وبحركة شبه آلية، تختفي المظلات من فوق الرؤوس، فتتكشف الوجوه فجأة، وبصورة أوضح. فتنتقل التحيات من يد إلى أخرى، وتتطاير القبلات في الهواء، موزعة من هذا أو هذه، إلى ذاك الذي سعد بوجود صديقه، أو صديقته، في المسيرة. يتناقلون السلام، ولو بابتسامة خفيفة، كأنهم في عرس جماعي. ثمة مظلة مرفوعة، يحملها شاب عشريني. يهمس، بصوت يكاد لا يسمع منه ما يقوله بوضوح، لصديقه الذي وقف إلى جانبه حاملاً علم لبنان: «لا تضحك. لكنني لا أريد أن أغلق المظلة، خشية أن تصوّر وجهي عدسة تلفزيون ما، فتعرف جماعتنا أنني كنت هنا. وحينها، يكون يومي الأخير بينهم». يطلق صديقه قهقهة مدوية في الفضاء. تعود السحب لتوزع حباتها على الرؤوس. تستقر المسيرة تحت جسر قصر العدل الشهير. تنتشر حول الجسر دوريات معززة للجيش اللبناني، فيما كان واضحاً وغريباً في آن أنهم لم يكونوا إلى جانب المسيرة، منذ انطلاقها من الكنيسة، خلافاً للمسيرات الشبابية التي كانت تنظم سابقاً، حيث كانت تتقدم المسيرة سيارات معززة للجيش وقوى الأمن الداخلي. يجلس الدكتور في جامعة «البلمند» نواف كبارة إلى كرسيه المتحرك، تحت الجسر، وإلى جانبه رجل أربعيني، اسمه محمد حداد، يستند إلى عكازيه. يقول كبارة انه عرف بالمسيرة من طلابه في الجامعة صباحاً. قالوا له عبارة واحدة: «نحن متوجهون للمشاركة في مسيرة ضد النظام الطائفي». لم يسألهم عن شيء، بل استقل سيارته ولحق بهم، من طرابلس. لا تفارق الابتسامة وجه أستاذ العلوم السياسية، الذي أصيب بحادث سير في العام 1980، فصار مقعداً منذ ذلك الحين. يشرح الدكتور سبب حماسته للمسيرة، خلافاً لبعض الذين خرجوا من قطار الشباب، قائلاً إن «الوضع قد تغير بعد تونس ومصر وليبيا، فالحلم بالتغيير كان مستحيلاً. حبذا لو يشجع الأهالي أولادهم للمشاركة. نحن نطالب بحقوقنا، التي تبدأ مع إلغاء الطائفية في هذا البلد». تتداخل كلمات حداد، الموظف في إحدى البلديات والمصاب بشلل أطفال، مع كلمات النشيد اللبناني، الذي أعلن المنــظمون أنه ختام لمسيرة لن تنتهي. يعبّر الرجل عن سعادته العارمة في المشـاركة، خـصوصاً أنه لم يتوقع أن يكون «العدد بهذا الحجم، نظراً للطقس، وبسبب الانتماءات السياسية المعروفة». تبدأ الحشود بالتفرق بعضها عن بعض بعد ساعتين من السير، متخذة جهات عدة. فمنهم من وقف قبالة مبنى الأمن العام، الذي أطلّت عناصره من شرفاته، ومنهم من وقف ينتظر سيارة تقله باتجاه الدورة أو الأشرفية، ومنهم من مكث يرقص ويزغرد بين من رفضوا العودة قبل مغادرة الجميع. وقفوا يرقصون حتى اللحظات الأخيرة، على أنغام أغان تشرئب لها أعناقهم، ما إن يسمعوا فيها كلمة واحدة: ثورة.

الهتاف الذي يكرره المعتصمون المتضامنون مع الشعب الليبي، أمام مكتب جامعة الدول العربية في الأشرفية، لا يشبه ذلك الذي رُفع دعما للثورة المصرية أو التونسية. الشباب والنساء والرجال هنا، يرفعون مطلباً واحد: «الشعب يريد إعدام الرئيس». فالرئيس، بحسب سمر، هو «مجرم حرب، معتوه و«مجنون»، يشتري عرشه بدماء الشعب الليبي ولا يستحق أقل من الإعدام أو المصحة العقلية لإصابته بجنون العظمة». ومن هنا، «لا نظام ليسقط في ليبيا، لا نظام دكتاتوري ولا نظام ديموقراطي، في ليبيا رئيس مريض نفسياً». ويأتي الاعتصام الذي نظمته «حملة التضامن مع الثورات الشعبية ـ لبنان»، استنكاراً للمجزرة الدموية التي يرتكبها نظام معمّر القذافي بحق الشعب الليبي ودعما لثورات الشعب العربي في ليبيا واليمن والبحرين والمغرب والجزائر والأردن وجيبوتي. وقد شارك فيه ناشطون هتفوا للأحرار: «ثوروا ثوروا يا أحرار/ أنتم أحفاد المختار»، و«يا قذافي، كاف كاف»، و«الشعب يريد إسقاط العقيد»، و«من بيروت تحية، لليبيا العربية». وألقى الناشط منصف بن علي كلمة باسم المعتصمين اعتبر فيها أن «الاعتصام أمام مكتب الجامعة، يأتي لرمزية هذا الموقع في تمثيل الأنظمة العربية الرجعية، ونحن نعلن أن الشعوب العربية ستحولها إلى جامعة فعلية للشعوب والثوار العرب». بدورها، اعتبرت الناشطة يارا الحركة أن «الثورة في ليبيا مختلفة عن تلك في مصر وتونس، لما يتم من تغذية الشعب والقبائل ضد بعضها ومما يشعل حربا أهلية، تقضي على وحدة الشعب ضد النظام». («السفير»)

السفير: كان مؤمن في ميدان اللؤلؤة في العاصمة البحرينية المنامة يوم أمس الأول، يشارك في الاحتجاجات، ولم يغادرها إلا قبل دقائق من «المجزرة» التي لم يُعترف بعدد ضحاياها حتى الآن حسب قوله. وقف مساء أمس في حديقة جبران في وسط بيروت أمام مبنى الإسكوا، مشاركاً في اعتصام دعا اليه اتحاد الشباب الديموقراطي اللبناني، «استنكاراً للهجمات الأمنية المنظمة ضد أبناء الشعب البحريني». وصل الشاب، إلى بيروت أمس، بعدما هُدد بالاعتقال، فقرر اللجوء إلى حيث يمكنه أن يدعم الاحتجاجات بحرية أكبر. يقول مؤمن إن «ما يحصل في البحرين الآن، ليس صراعا طائفيا بين السنة والشيعة، وإن كانت تلك هي الصورة التي تسعى السلطة ودول الخليج إلى تكريسها. في البحرين صراع سياسي، ضد انقلاب الملك على ميثاق العمل الوطني الذي أقر في 14 شباط 2001 وتم الانقلاب عليه بعد سنة من إطلاقه فقط». يعود مؤمن إلى ليلة المجزرة، حيث «طوقت القوى الأمنية المحتجين عند الثانية من فجر الخميس 17 الجاري، وباشر عناصرها بإطلاق الرصاص الكثيف، بكل أنواعها، مستخدمين كل أساليب القوة لتفريق المتظاهرين، بما فيها الرصاص الانشطاري. كنت قد غادرت الميدان للتو، ومنعت من العودة اليه بعد انتشار الدبابات الثقيلة من حوله.. كنت هناك، على مسافة ليست ببعيدة، أسمع أصوات النساء يصرخن والأطفال يبكون. كان هناك نوع من الهستيريا الجماعية.. في الميدان وفي المحيط حوله». يرفض مؤمن الحصيلة الرسمية التي تقول إن ضحايا المجزرة هم خمسة قتلة فقط، مشيرا الى وجود «سبعين مفقوداً، لم يعرف مصيرهم حتى اللحظة، ويرجح أن يكون قسم كبير منهم في عداد الشهداء، ويُشتبه في أن تكون الشاحنات المعدّة لتثليج الفاكهة المركونة حول الميدان، محمّلة بجثثهم!». كان ذلك هو آخر ما شهده الشاب في بلده، وقبل أن يصل إلى بيروت، إلا أن الهاتف في يده ينقل له الأحداث فورا وينقل له أخبار مجزرة جديدة، لم تكن قد عُرفت حصيلتها حتى اللحظة... ما يحدث في البحرين الآن، برأي مؤمن ومواطنه علي هي «احتجاجات تحولت إلى انتفاضة وفي طريقها إلى أن تكون ثورة شعبية ضد الانقلاب على الميثاق الوطني، لا ضد الطائفة كما يروّج لها. في أيامها الأولى، وتحديداً في 14 شباط، كانت مطالبها بتطبيق الميثاق كما أعلن في 2001، وإطلاق المعتقلين السياسيين، وتطبيق ملكية دستورية للتخفيف من نفوذ السلطة الحاكمة، مع احتفاظ العائلة المالكة بموقعها بلا سلطة مباشرة. أما بعد سقوط الشهداء، فلم يعد هناك إمكانية للتسوية، والمطالب باتت بتغيير العائلة الحاكمة تماماً». لا ينكر الشاب أن ثورتي مصر وتونس كانتا بمثابة قوة الدفع للشباب البحريني، و«إننا نتواصل معهم دائما عبر الشبكات الإلكترونية الاجتماعية، بما يثبت أن ما يحصل هو ثورة ضد الظلم، وضد إفقار الشعب. أربعون في المئة من البحرينيين تحت خط الفقر، مقابل ثراء فاحش لأقلية من المواطنين، هي ليست ثورة طائفية». لكن هل يصل صوت المحتجين في البحرين الى الخارج؟ يجيب مؤمن «كيف سيصل والقناة التي دعمت الثورة المصرية، تتعامل مع ثورتنا عن بعد، وبخجل وكأن الأمر لا يعنيها، ونحن نعلم أن أمير قطر اتصل بملك البحرين.. وهذا الاتصال يدل كيف ستتعاطى قطر ودول الخليج وإعلامها مع ثورتنا، والأهم أنه لا قنوات خاصة معارضة في البحرين لتعوض التعتيم الفضائي العربي». يعتبر أحمد، وهو أحد المشاركين في الاعتصام أن «ما يجري في البحرين الآن، يخيف أكثر مما يحصل في مصر، لا سيما أنه يصبغ بالطائفية، ويصور أن الأكثرية الشيعية تحاول الانقلاب على الملك السني، في حين أن الخلافات سياسية بحتة»، معتبرا أن «الكثير من القوى الشيعية في المنطقة العربية ستحاول تكريس وجهة النظر تلك، مقابل قوى سياسية ستدعم الملك السني، وهو واحد من أقوى الحلفاء لأميركا، وطبعا للسعودية». بدوره، اعتبر علي متيرك باسم اتحاد الشباب الديموقراطي أنه «في البحرين الفصل الثالث من كتـاب الأمـة، وكتـاب الحريـة التي بدأت في مصر وتونس»، مؤيداً «محاكمـة الفاسـدين، وتداول السـلطة، ومنح المواطن حياة كريمة على أرضه». وألقت كاترين ضاهر كلمة قطاع الشباب والطلاب في الحزب الشيوعي اللبناني معتبرة أنه «آن للبلاد العربية أن تُزيل عفونة أنظمتها المستبدة، وفساد حكوماتها».

السفير: لليوم السادس على التوالي، اعتصم شبان وناشطون لبنانيون ومصريون تضامناً مع ثورة مصر، أمام السفارة المصرية في منطقة بئر حسن. وفي اعتصام الأمس سالت دماء أصر أصحابها على أنها «ليست أغلى من الدماء التي تسيل كل يوم على أرض مصر من أجل إسقاط الرئيس حسني مبارك ونظامه». عند الخامسة من بعد الظهر، كان الشبان يطلقون هتافاتهم في الهواء ويرفعون قبضاتهم مطالبين برحيل «الطاغية» عندما تحمس بعضهم نتيجة مشاهدتهم صور الاعتداءات على المتظاهرين في «ميدان التحرير» في اليوم الذي سبق، فقاموا بنزع الشريط الشائك الذي يفصل بينهم وبين السفارة فتدخلت عندها القوى الأمنية بالدروع والهراوات واستخدمت العنف الشديد ضدهم، ذكورا وإناثا، وقامت بإرجاعهم إلى حدود القاعة المغلقة للمدينة الرياضية. حصل هذا على الرغم من أن العديد من المعتصمين كانوا يعملون على التهدئة، فتعرضوا رغم ذلك للضرب أيضاً. وأوقفت عناصر قوى الأمن ثلاثة شبان من المعتصمين من «اتحاد الشباب الديموقراطي» ثم أطلقت سراحهم في وقت لاحق. وتسببت حالة الهرج والمرج في قطع السير لبضع دقائق، وإلى سقوط سبع إصابات بين المعتصمين تراوحت بين الجروح والكسور والرضوض نقلوا على إثرها إلى مستشفى بيروت الحكومي. ثم حضرت في وقت لاحق تعزيزات للجيش. وعرف من المصابين الصبيتان ي.ح. (إصابة باليد)، وح.ش. (إصابة في الخصر). فيما أصيب من الشبان ع.ب. (كسر في الأنف)، ور.ش. (إصابة في الرأس)، وع.ت. (إصابة في اليد)، وخ.س. (إصابة في الرأس)، وو.ه. (إصابة في اليد). كذلك أصيب الزميل حسن راضي، مراسل قناة «الآن» التلفزيونية الذي كان يقف قرب القوى الأمنية جراء إصابته بحجر في رأسه ما استدعى علاجه بخمس غرزات في الرأس. واستنكر قطاع الشباب والطلاب في «الحزب الشيوعي اللبناني» في بيان له «ما جرى أمس في الاعتصام الذي شارك فيه القطاع، و»اتحاد الشباب الديموقراطي» و»التنظيم الشعبي الناصري» حيث لقيت احتجاجات المعتصمين أقل ما يمكن القول عنه «وحشية وهمجية من قبل عناصر الأمن اللبناني الحامي للسفارة». وأسف بيان القطاع بشدة «لهذا التصرف غير المهني الذي بادرت القوى الأمنية إليه وقامت بضرب المعتصمين ضرباً مبرحاً، مما أدى إلى إصابة العديد من رفاقنا»، مطالباً «وزير الداخلية باتخاذ الإجراءات المناسبة لمحاسبة المعتدين». ودعت العديد من الفاعليات والقوى الشبابية والطلابية والحزبية وناشطون إلى المشاركة في الاعتصام بدءا من الثالثة من بعد ظهر اليوم، في «جمعة الرحيل»، أمام مقر السفارة المصرية.

شباب السىفير: أسعد ذبيان

مشهد الكولا: حراك شبابي جديدلكي لا يقال بأنّ لبنان لم يصب بعدوى الشارع، وبأنّه لم يشم رائحة الياسمين. وعلى الرغم من كون الشارع كان فيصلاً أحياناً في السنوات الماضية، وأسداً يزأر ويتوعّد في أوقاتٍ أخرى، إلا أنّ المطالب التي رفعت أثناء هيجانه لم تكن يوماً لصالح الكل، بل للبعض في وجه البعض. من هذا المنطلق، يمكن القول أنّ الإبقاء على مسيرة "دافع عن لقمة عيشك"، التي نظمها إتحاد الشباب الديمقراطي، وقطاع الشباب في الحزب الشيوعي، على الرغم من تغيّر الصيغة الحاكمة اللبنانيّة هي خطوة للأمام في خطاب الأقدام التي تحف الإسفلت. فعلى وقع هتافاتٍ على شاكلة: "يا ثورة قومي قومي، ما بدنا هيك حكومي" و"الحريري مع ميقاتي، سرقولي مصرياتي". انطلقت مسيرة "الرغيف" من الكولا، باتجاه السرايا الحكوميّة. طغى اللون الأحمر الشيوعي على اليافطات المرفوعة، وشعاراتٍ تعلن: "أياً كانت الحكومة، ومن أي جهات هي مدعومة. المطلوب هو حقوق الناس المحرومة". على يسار المتظاهرين، بائع كعكٍ تفاجأ بالمشهد، فاستغل الفرصة لكسب الرزق، في حين أخفى وجهه من عدسات المصورين. وعلى اليمين، فتى إلى جانب أبيه يرفع يافطة دوّن عليها: "نرفض أي شكل من أشكال خصخصة الضمان الإجتماعي وتقديماته". يجيب عبدالله المكحل عن سبب إقحام هذا المطلب في المسيرة: "لأنّ الضمان الإجتماعي يستفيد منه ثلثي الشعب، وهو الذي يجمع اللبنانيين، إذا ما خصص ستسرقه الشركات". ويضيف أنّ المطلوب تحسين إدارة الضمان الحالي. مشهد المصيطبة: مطر لا يوقف المسيرةيتوافد الشباب أكثر عند الوصول إلى وطى المصيطبة، يعلّق أحدهم: "لماذا عند الحادية عشر، الناس نيام.. شو من الفرشة على المظاهرة؟". وبالفعل عديدين استيقظوا نهار العطلة من الفراش إلى المشاركة بتظاهرة رفض الغلاء. الشعارات المصريّة حاضرة في المسيرة: "الشعب يريد إسقاط النظام"، كذلك كلمات الشيخ إمام: "إحنا مين وهمّا مين؟ همّا أمرا والحكم معاهم. وإحنا الفقرا والمساكين". والأعلام المصريّة، والتونسيّة، والمصريّة حضرت كذلك. يستعمل خليل اللهجة المصريّة معلقاً كأنّه يسأل المسؤولين: "بس حضرتك بتقول إنو الشعب قام؟". تكمل المسيرة اتجاهها نحو شارع مار الياس، وعند ثكنة الحلو، وتحت عيون المواطنين من على الشرفات، ترتفع أصوات الحناجر: "خبز، حرية، كرامة وطنيّة". يكمل الشبان مسيرتهم تحت زخّات المطر، تفتح الشماسي، ويطلب الكل لجوء عند من يحمل بين يديه مظلّة. يتندر البعض: "أنا أستجير بكم"، يتهكّمون على الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين الذي أجارته السعوديّة. تقول سناء أنّها ليست مع أي طرف سياسي، وتعنيها لقمة العيش ولهذا آثرت المشاركة في المسيرة. تضيف: "بدأنا المطالبة بحقوقنا بغض النظر عن طبيعة الحكومة، فولو تغيّرت، تبقى حقوقنا ملكنا". وعن إمكانيّة أن يشهد لبنان ثورة كتونس ومصر، تجيب سناء: "ولم لا؟ طالما لدينا الإرادة الشعبيّة والعقل".مشهد السرايا الحكومية: رياض الصلح يدير ظهرهفي المسيرة، فتاة ترتدي الأحمر تعلو رأس والدها، وعمر، ابن العاشرة يسأل منى: "إلى أين سنذهب؟"، تجيبه إلى السفارة المصريّة، فيعاود سؤالها: "شو في هونيك؟". تشرح منى أنّها جاءت من عدلون ولذلك عليها إجابته لأنّه بعيد عن المنزل، وتخبره عن الدعوة لاعتصام تضامناً مع الشعب المصري الثائر. عند الوصول إلى ساحة البلد، تجمّع المتظاهرين إلى جانب الاسكوا، يعلّق شاب: "يبدوا أنّهم طوّقونا"، ويقصد قوى الأمن. النشيد الوطني اللبناني وقوفاً (كأنّه كان هناك خيارٌ آخر)، وكلمتين لمنظمي المسيرة جاء في أحدها: "السلطة والمقاومة ليست ملكاً لأحد، بل هي ملك كل الناس". يعلّق صديق: "تمثال رياض الصلح (رئيس وزراء سابق) إلى اليمين يمثّل الدولة، يدير ظهره للمتظاهرين (الشعب)، ويتطلّع نحو وسط البلد (الأغنياء وضريح الرئيس الحريري)". ويقول جاد، رئيس فرع عاليه الغرب في اتحاد الشباب الديمقراطي: "نزلنا إلى الشارع لأنّ حالة الفجور في السياسة الإقتصاديّة اللبنانية وصلت لحدها، من مهزلة الحد الأدنى للأجور إلى الضرائب". ويعتبر أنّ تغيير الحكومة، لا يلغي أحقية مطالب الناس الاقتصادية والاجتماعيّة. ومن نافذة صغيرة، كان شرطي في أمن مبنى الأمم المتحدة يراقب المتظاهرين المحتشدين.المشهد الأخير: المعمعةكان أحد الرتباء يطلب من رجال الأمن العودة خطوة إلى الخلف، وعدم استفزاز المتظاهرين عندما قرر شاب اعتلاء السور والقفز نحو الساحة الفاصلة بين المحتشدين ومدخل سرايا الحكومة الأسفل. نهاه أحد المنظمين سائلاً: "أين تنوي الذهاب؟". ووسط الهرج والمرج، حاول بعض الشباب اقتحام حاجز الأمن، لكنّهم لم يفلحوا فسدّ الدرك عليهم الطريق. هنا انقسم المتظاهرين، بعض يريد اقتحام السرايا (أو ما دونها)، ومنظمين يقيمون حاجز سد بشري لتطويقهم. يعلّق عربي العنداري، أمين عام الإتحاد سابقاً وأحد المنظمين: "بضعة أشخاص حالمين يظنون أنّ بإمكانهم احتلال السراي، وربّما يشكّلون حكومة" منتًقدا "بعض المتحمسين" حسب رأيه. ويعلّق عمّار، الذي كان ينوي الاقتحام "ضعنا بالمعمعة". هذه الخطوة أنتجت رأيين منقسمين، فبين من أراد أن تقوم المسيرة بخلق شرارة عصيان مدني معلقاً يقول: "لشو العمل كله؟ لشو المظاهرة؟ خلي السلم يجيب حقوق. أنا كنت نايم، لو عارف هيك ما بنزل" حسب شادي. ويدعو شادي إلى احتلال السرايا وتكريس حكم الشعب الرافض للنظام الطائفي. يرد عليه طارق: "في تونس رفعوا العلم التونسي، ولكن هنا رفعوا علم أحزابهم". لا تخفي رنا امتعاضها ممّا حصل: "يا عيب الشوم، اختلفوا فيما بينهم (المتظاهرين)". في حين أنّ نور لحام كانت قد شاركت في المسيرة لاعتقادها أنّ ثورة كالتي حدثت في تونس ومصر هي ما يحتاجه لبنان. على الرغم من انتكاسة اللحظة الأخيرة (والبعض يعتبرها ضرورة)، أزاح لبنان اللثام عن شارعٍ مدجّن من قبل أفرقاء سياسيين طائفيين، ليطلق العنان لتحركاتٍ شبابيّة مطلبية. فهل تكون على مستوى الآمال المعقودة عليها وتحقق بعضاً من مطالب جماهيرها؟

جعفر العطارالوجوه ذاتها التي توافدت إلى السفارة التونسية بدعوة من تجمعات يسارية متنوعة، منذ أن أشعل بوعزيزي النار في جسده قبل شهر تقريباً، اتفقت على اللقاء قبالة السفارة المصرية، يومي أمس وأمس الأول. لمّا وقف هؤلاء أمام سفارة تونس، كانوا يحملون أحلامهم في قلوب خائفة تراهن على تحقيق العدالة. كانوا يقولون عبارة واحدة «ثورة.. ثورة.. حتى النصر».الوجوه ذاتها التي رفع أصحابها قبضات عالية في الهواء، وأعلاماً حمراء، وشعارات ثورية، انتقلوا إلى سفارة أخرى، كأنهم ينتقلون إلى بلادها: يقولون للشعب المصري الثائر إنهم يقفون إلى جانبهم. يشاركونهم برفض الظلم والفقر. يقولون: «قم يا محمد.. قم با بولس.. بكرة مصر ح تبقى تونس»...الوجوه ذاتها، وقد انضم إليها آخرون، وغاب عنها كثيرون، وقفت تهتف في بيروت لنصرة شعب مصر، تحت المبنى المكلل بالعلم المهيب لجمهورية مصر العربية، في الشارع المقابل للحيّ الشهير الذي استضاف على امتداد سنوات خلال القرن الماضي، الثورة الفلسطينية، قضية العرب المركزية، برموزها وتقلباتها.تحت المطر، تظاهر مؤمنون بالـ«البهية»، بينهم لبنانيون وبينهم مصريون جاؤوا على أمل أن يتمكنوا من المشاركة، ولو من هنا، إخوانهم الذين هناك، الانتفاضة على الظلم.تلك لم تكن دموع فرح.مصباح بدوي، الرجل الثلاثيني الذي وقف يراقب الجموع المحتشدة قبالة مبنى السفارة المصرية، كان يبكي بصمت، وقد وقف إلى جانبه شاب عشريني اسمه محمد سيف. كان مصباح يبدو كمن يصرخ باكياً.قبل ثماني سنوات، تخرّج مصباح من كلية الحقوق في القاهرة. الشاب الأسمر كان يحلم، كبقية زملائه، بأن يفتتح مكتباً للمحاماة. كان يحلم. ولمّا استيقظ من الحلم، التحق بركب أترابه من قرية كفر الشيخ، متوجهاً إلى لبنان.«ثورة.. ثورة حتى النصر، في كل شوارع مصر» يردد المحتشدون بصوت مدوٍّ، لكن مصباح متوجس من «الثورة». يشرح أنه خائف من «اللي بيحصل. فين الأمن؟؟ الرّيس بقول يا أنا يا الفوضى! هوّا بيحرق مصر، ما يفلّ بقى! ما حدّش عايزو! هوّ ما عندوش كرامة ولّا إيه؟!».كُره مصباح للنظام المصري، بكافة رموزه، كسر الحاجز الذي يسكنه ما إن انتفضت الناس في مصر: «لقد تغرّبت عن أهلي بسببهم. تعلّمت، والآن أعمل نقّاش (دهّان). كل ده بسبب طاغية اسمه حسني مبارك»، يتحمس شاب يقف إلى جانبه ويقول مستطرداً «مبارك سينام في خيمة في السعودية، وليس في قصر، لأن بن علي سبقه».تتردد في الأفق شعارات كثيرة، باللكنة المصرية، مطالبةً الرئيس حسني مبارك بالرحيل. الصحافي التونسي منصف بن علي وصل للتوّ، وقد سبقه إدريس المليتي، الذي أصبح «رمزاً» للثورة التونسية في لبنان. علما مصر وتونس يرفرفان في الهواء الطلق، وبينهما صور للزعيم الراحل جمال عبد الناصر، والثائر الأممي أرنستو تشي غيفارا.أمس الأول، طغت أعداد اللبنانيين على أعداد المصريين، فهؤلاء لم يعرفوا بخبر الاعتصام. أما أمس، فقد كان الحضور الأول والأخير لهم: «ارحل رحل يا عميل.. إنت بعت فلسطين» كانوا يرددون بغضب عارم. المصريون الغاضبون لا يريدون لمبارك أن يرحل فحسب، بل أن يُحاكم على ثلاثين عاماً من «الحكم الظالم الذي تقاسمه مع ابنه جمال ورموز النظام الفاسد. فالرّيس لم يحجب عنا العيش (الخبز) فقط، وإنما باع فلسطين لإسرائيل أيضاً. جعلنا نبكي في منازلنا على أهلنا في غزة» يقول «شحاتة» الذي ثبت على صدره لافتة تقول «بحبك يا مصر».يبدأ الحديث، مع المصريين، بهدوء يروم شرح ما يدور في صدورهم إزاء الأحداث الراهنة، لكن الغضب سرعان ما يمتلك المتحدثين، غبن السنوات الطوال يخرج في لحظات، بكلمات صارخة، حانقة، كانت مدفونة وممنوعة من الخروج إلى العلن خوفاً وظلماً. في مصر، كما في تونس، كما في دول العرب كافة، خوف وظلم ينتظران من يكسر الصمت والتمرد على الطاغية، كل على «طاغيته».بهدوء، يقول محمد، الطالب الجامعي الذي وصل إلى بيروت آتياً من المنصورة قبل شهر، إن «في لبنان توجد حرية تعبير مقابل انعدام وجود الأمن. وفي سوريا، ثمة مستوى مقبول من الأمن والمعيشة، لكن من دون وجود حرية. أما «في مصر، فلا يوجد لا هذا ولا ذاك. والناس سئمت، وملّت، فانتفضت».يُكسر الهدوء، ويخرج محمد عن تحفظه متسائلاً: «المضحك المبكي في الموضوع هو أن نسبة 95 في المئة من ممثلي الشعب هم من الحزب الحاكم، فكيف لهم المطالبة بحقوقنا؟ وأين المليون و200 ألف عنصر من الأمن المركزي؟».يتفق مصباح ومحمد، ومعهما «الحاج الشافعي» المصري المقيم في صيدا منذ أربعة عقود، على أن الفلتان الأمني المترافق مع الانتفاضة الشعبية، مرده أن مبارك نفذ خطة تشبه خطة الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي تتمثل في إطلاق سراح المسجونين بتهم خطيرة، وتوجيههم لافتعال أعمال السرقة والشغب، كي تعبّر الناس عن حاجتها للأمن، وبغية الوقوف ضد المحتجين.غير أن الخطة، كما يقول المصريون الثلاثة، لن تؤت ثمارها، لأن المحتجين، والأهالي، كما كل الناس، باتوا على علم ودراية بما يحصل، فشكلوا لجاناً شعبية في الأحياء تعمل على حراسة العمارات والأملاك الخاصة. لقد شكّلوا، وفقاً لتوصيف محمد، «بوليس» شعبياً لقمع التعدّيات «هذه هي مصر» يقول بحماسة متزنة.ترتفع، من بين الحشود، لافتة تحمل صورة لعبد الناصر مصافحاً غيفارا، تدانيها صورة لمبارك مصافحاً نتنياهو. وثمة عبارة تتوسط الصورتان «الفارق.. الكرامة».تنتقل الحشود من أمام السياج الذي وقف خلفه عناصر قوات مدرعة من الأمن، إلى الرصيف المحاذي للشارع العام. يبقى رجل أربعيني واقف ومعه علم كبير يطل منه وجه غيفارا.يحرّك الرجل العلم يمنة ويسرة، بقوة ساعد تشبه ساعد لاعب كرة المضرب، فيما رجال الأمن يسخرون منه ضاحكين. يستكمل الرجل حركته، بقوة أكبر، تزامناً مع ارتفاع دوّي الشعارات الثورية، متجاهلاً ضحكات «الأمن». وبحركة سريعة، يولي الرجل ظهره لهؤلاء، مستكملاً «طقسه» الذي اختاره لنفسه.يقول صديق محمد، وهو شاب تخرّج من كلية الزراعة في القاهرة، إن الفساد في مصر يبدأ من العسكر وينتهي في الزراعة. يستشهد الشاب بحادثة لا ينفك عن استذكارها وقعت قبل عشر سنوات: «لقد زفّ لنا الدكتور في الكلية الزراعية آنذاك عبد السلام جمعة، خبر استنباطه لصنف من أصناف القمح يولّد 270 حبة قمح، فيما السنبلة العادية تولد مئة حبة. كان خبراً خيالياً واكتشافاً رائعاً».وبعدما سجّل الدكتور تفاصيل مشروعه في المراكز المعنية، عرف طلابه أنه توقف عن مهنة التعليم، وصار موظفاً كبيراً في إحدى الوزارات، تزامناً مع «دفن» مشروعه في أدراج الدولة. يعتبر الشاب أن «الولايات المتحدة الأميركية لا تريد لنا أن نصدّر القمح، بل أن نستورده دائماً. وهي إرادة رموز السلطة في مصر أيضاً، وهذا نموذج زراعي فقط». ملاحظة: متخرج كلية الزراعة يعمل، في لبنان، «نقاشاً» أيضاً، أي «دهّان».يصرخ المتظاهرون، بصوت متقطّع، «الشعب.. يريد.. إسقاط النظام». تختفي السيارات من البقعة المربعة، ويتبين أن القوى الأمنية أحكمت إغلاق المنفذ المؤدي إلى المدينة الرياضية من جهة «الكولا». يهتف المتظاهرون، بشعار آخر: «حسني مبارك يا واطي.. إنت بنيت السدّ الواطي. وعبد الناصر يا عالي.. إنت بنيت السدّ العالي».يقول كل من باسم شيت، وهو من منظمي الاعتصام، ورنا الحركة الناشطة في «اتحاد الشباب الديموقراطي»، إن «الشارع اللبناني لم يكن مستوعباً لثورة تونس في بداياتها، أما الآن فبدا متحمساً لما يحصل في مصر، خصوصاً أن سقوط النظام المصري له تأثير مغاير على كل الشعوب العربية».يحمل إدريس لافتة صغيرة، كُتب عليها بخط محترف «فرحانين، فرحانين. كل ثورة وإحنا دايمن فرحانين. طلاب، وعمال، وفلاحين». كأنما الثورة، التي دفعت الطالب التونسي للبكاء منذ أن أضرم البوعزيزي النار في نفسه، صارت واقعاً تتنقل أماكن الاحتفاء به.عندما انتفض الشعب في تونس، كان إدريس مؤمناً بنجاحها. يقول الشاب ان الثورة في تونس بدأت الآن، وهي العبارة ذاتها التي قالها غيفارا بعدما تحررت كوبا من الطاغية باتيستا.يقول إدريس إن «القضية واحدة: مصر وتونس»، فيعلّق شاب مصري قائلاً: «تتردد عبارة طريفة بيننا اليوم، مفادها أنه لو نجح الثائرون في مصر في طرد مبارك خلال الأيام القليلة، فإننا سنتأهل إلى النهائي مع تونس». يقولها مبتسماً ابتسامة متوجسة، ثم يضيف بجدية حماسية «هم السابقون، ونحن اللاحقون...».

السفير: جعفر العطاركانوا، بالأمس، يثورون على فقرهم كما في كل مسيراتهم. يتظاهرون على رموز نظامهم في بلادهم. لقد ناموا على ثورة في تونس، واستيقظوا على أخرى في مصر، ثم تذكّروا واقعهم كلبنانيين. لكن مسيرة الأمس، لم تكن كسابقاتها: فقد ضمّت المئات من ناشطي «اتحاد الشباب الديموقراطي» يهتفون، في شوارع بيروت «الشعب.. يريد.. إسقاط النظام».في مسيرات الاتحاد الدورية، والتي تنوعت عناوينها بين «أنت في خطر» وبين «دافع عن لقمة عيشك» و«دفاعاً عن الرغيف المسلوب»، كان المارة يقابلونهم بنظرات استغراب وشفقة، كأنهم يقولون لهم «مساكين أنتم. هذا لبناننا وسيبقى هكذا». أما هم، العشرات، فكانوا يبتسمون ابتسامات الطموح، والجموح عن الفساد، والثورة على النظام.بالأمس، انطلقوا من أمام تمثال الشهيد جورج حاوي، وجابوا شوارع بيروت مروراً بمار إلياس، وصولاً إلى مبنى السرايا الحكومية. وقبل يوم واحد، كانوا يشاركون في نصرة الشعب المصري الثائر على نظامه، بشعارات ثورية رفعوها قبالة السفارة المصرية. هناك، طالبوا بـ«العيش»، رغيف خبز المصريين، وهنا يطالبون بخبزهم.من شرفاتهم، أطلّ الأهالي بحثاً عن مصدر الصوت. حيّوا الشبان ولاقوهم. منهم من نزل والتحق بهم، ومنهم من ردّد الشعار «الشعب.. يريد.. إسقاط النظام». المئات يمشون تحت زخات المطر القوية، وهناك سيدات طاعنات في السنّ يوزّعن قصاصات من الورق بعنوان «إلى شباب لبنان».تقول قصاصة الورق المبتلة بالمطر: «لأننا نبحث عن أجوبة حول واقعنا، ولأننا لسنا أبناء طوائف، ولسنا منخرطين في الصراعات المذهبية والطائفية التي لا تخدم إلا الطبقة السياسية الحاكمة، غير العابئة بهموم الناس ومشاغلها الحقيقية، فإننا نبحث عن أفق وإمكانيات تحسينه».محاصرون بالقوى الأمنية، وأمطار غزيرة، استكملوا سيرهم وسط نظرات وزعها المارة، كأنها تتضامن معهم. نظرات أمل زُرع بعد ثورة «الياسمين» وانتفاضة أبناء عبد الناصر. «يكفينا جوع.. ويكفينا ذل» يردّدون، ومعهم رغيف خبز يعلو في الهواء مبتلاً بحبّات المطر.يصدح صوت الزغاريد، متداخلاً مع أصوات الأناشيد الثورية. تدلّ وجوه الشبان على ثقة بالنفس ازدادت إلى رصيدهم، فازدانت بثوب طويل يضمّ المئات. ثوب يستطيع أي «زعيم» لبناني أن يحيك ما هو أكبر منه حجماً، ما إن يرفع قبضته عالياً ليطالب برحيل «زعيم» خصم له. وما إن يرفع قبضته، حتى يضمّ الآلاف في داخله. غير أن مئات الأمس، كانوا يطالبون برحيل كل «الزعماء».ينضم إلى المسيرة، عند مار الياس، شبان مصريون كان قد سبقهم الصحافي التونسي منصف بن علي. تغرورق عينا سيدة أربعينية بالدموع، وقفت للتو عند مدخل مبنى قديم. تقول، بصوت حزين «الله يحميكن». يزداد هطول المطر، وتشتد قوة العواصف، ويزداد معهما عدد المشاركين.ينتصف النهار، مع مرور ساعة من السير. يشبه المشهد، في أسلوب سيرهم وطريقة تعبيرهم عما يعانون وماذا يريدون، مشهد نزول أبناء محافظة سيدي بوزيد في تونس. تصل الحشود إلى النفق المحاذي للسرايا الحكومية، حيث انتشرت عناصر القوى الأمنية بأعداد مضاعفة للمسيرات السابقة. كأنهم كانوا يعرفون بأن ثورة مصر ستدفع بعض من كان يلازم المنازل، إلى النزول إلى الشارع، من دون انتظار تلويحة يد من «الزعيم».يقول رجل ستيني، التحق بالمسيرة من مار الياس، لصديقه: «أبناء الطوائف والمذاهب يلازمون منازلهم، وينتظرون أوامر أحزابهم». يقولها بنبرة تعبّر عن فرحة، كمن يميّز نفسه عن أولئك. يسأل الرجل شاباً عشرينياً: «من سيسقط النظام؟»، فيجيبه مبتسماً «نحن.. نحن!».يطلب أحد منظمي التظاهرة من المتظاهرين، أن يقفوا قبالة نوافذ السرايا «حتى يشاهدونا». يرتفع صوت النشيد اللبناني. ثمة حماسة واضحة على وجوه المشاركين. يتأملون وجوه بعضهم البعض.تبدأ الكلمات، مطالبة «الزعماء» بالرحيل وإلغاء النظام الطائفي. كلمات تتوعد ببناء وطن على ركام «الطغاة». يتحدثون بحماسة تحمل في حروفها ثقة بالنفس وإيماناً بالتغيير. فهؤلاء، تعودوا على النزول إلى الشارع وحدهم، بالعشرات.يقولون إنهم يتحركون «نتيجة للتحدّيات الكبيرة والهواجس الكثيرة التي يعيشها المواطن اللبناني، بفعل السياسات الاقتصادية التي يشوبها الكثير من الخلل، والتي أنتجت مديونية هائلة تجاوزت كل الخطوط الحمر الاقتصادية».من الهمّ اللبناني، انتقلت كلمة «الاتحاد» إلى تونس ومصر: «نجتمع اليوم وفي جعبتنا بعض الرسائل. أولها للوزير الأول الغنّوشي، فنقول له لا مكان أمثالك في تونس بعد الثورة. وثانيها لحسني مبارك. فنسأله ماذا نقول فيك، والرئيس عبد الناصر خرجت لأجله الملايين عندما قرر التنحي عن الحكم، مطالبين بعودته».بالأمس، حملوا رغيف خبزهم، ومشوا في شوارع بيروت. لم يكونوا عشرات. ولم يرددوا اسم «زعيم» ما يزال متربعاً على «عرشه».تنفسوا هواء مصر، وأريج «الياسمين»، فسكنت الحماسة في نفوسهم. رفعوا رغيف خبزهم، ثم حملوه إلى السفارة المصرية، كمن يبحث عن وطن...

الأكثر قراءة