أختلفت الدورة الاربعون لمنتدى دافوس الاقتصادي هذا العام عن جميع الدورات السابقة. فقد انعقدت في ظل احتدام الازمة المالية- الاقتصادية العالمية، والتي شهدت اكبر واهم التراجعات في السياسة الاقتصادية التي فرضتها قوى العولمة الرأسمالية الشرسة والليبرالية الجديدة وهي تراجع وانحسار دور الدولة في الاقتصاد والاستسلام لأليات السوق والقطاع الخاص لادارة الاقتصاد العالمي. فالأزمة المالية العالمية فرضت إعادة دور الدولة في الحياة الاقتصادية بقوة والذي تمثل في رصد المليارات من الموازنات العامة للدول الرأسمالية الكبرى ومن أموال دافعي الضرائب ولتحميل الاقتصادات الوطنية ديوناً باهظة من اجل انقاذ عشرات بل مئات المصارف والشركات المفلسة، ووصل الامر حد قيام بعض الحكومات بشراء او وضع اليد على بعض المؤسسات او المشاركة فيها. وبدون تدخل الدول المباشر والفعال ما كان بالامكان ابداً انقاذ العشرات بل مئات المؤسسات المصرفية والانتاجية وتخفيض حدة التدهور الاقتصادي الذي أصاب جميع دول العالم بلا استثناء ولو بمعدلات ونسب متفاوتة .
كان اهم اهداف نشوء منتدى دافوس الاقتصادي المعلنة قبل أربعين عاماً العمل على استقرار العالم اقتصادياً وسياسياً!!! وذلك من خلال توطيد اركان النظام الرأسمالي العالمي وضمان تفوقه وديمومته، وتكرست فعاليات المنتدى الاساسية طوال الفترة الماضية لتقديم النصائح والمقترحات التي تحقق ذلك، في حين ان الملتقيات والنشاطات السياسية والندوات المختلفة والعلاقات العامة التي أجريت خلال دورات انعقاده كانت تشكل المظهر الذي يضفي طابعاً ليبرالياً يغطي كل الاهداف الاساسية لهذا المنتدى .
وأثبتت التجربة ومختلف المعطيات والنتائج خلال سنوات المنتدى السابقة انه ليس سوى واجهة براقة تخفي وراءها مساعي كبار رجال الاعمال والدوائر الاحتكارية العالمية للتأثير على صناع القرار السياسي في العالم، ولاشك انهم حققوا الكثير من اهدافهم هذه، ولكنهم فشلوا في أثبات ان العولمة الرأسمالية الشرسة كانت في صالح جميع سكان العالم، وان الرأسمالية قد حققت التوازن الاقتصادي والاجتماعي عالمياً. ففي ظل مفهوم العولمة الرأسمالية ورغم ازدياد ارباح الشركات الاحتكارية الرأسمالية، فأن العالم فشل في تحقيق اهداف الالفية التي رصدتها الامم المتحدة بتقليص عدد الفقراء الى النصف ومحاربة انتشار الاوبئة الفتاكة. وعلى العكس تماماً فقد تجاوز عدد الجياع في العالم المليار نسمة لأول مرة في تاريخ البشرية ، ودمر التلوث البيئة خاصة بالنسبة للماء والهواء ، وشهد العالم انفجار الازمة المالية والاقتصادية على معدلات البطالة منذ ازمة الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي او ابان الحربين العالميتين . والحقيقة ان ما تحقق على ارض الواقع جاء عكس الرسالة التي كرس منتدى دافوس نفسه لها. فنظريات الليبرالية الاقتصادية الجديدة وقوى العولمة الرأسمالية جرت العالم الى هاوية الازمة المالية العالمية التي يبدو ان الخروج منها لن يكون سهلاً. فالازمة هي ثمرة الانفلات غير المراقب في سلوك المصارف والشركات والسباق المجنون لتحقيق اعلى الارباح بغض النظر عن اثارها الاقتصادية والاجتماعية .
شارك في منتدى دافوس الاربعين ما لايقل عن 2500 من رجال المال والاعمال والسياسيين والاكاديميين والنقابيين، بينهم ثلاثون من قادة الدول ورؤساء الحكومات.وانعقد تحت مفهوم اعادة القيم والمبادئ وإعادة الهيكلة والبناء من خلال ستة محاور، وجرى اختيار هذا العنوان بحسب مؤسس المنتدى كلاوس شفاب لأن " النظام الحالي للتعاون الدولي ليس كافياً".
صحيح وككل دورة كانت هناك لقاءات وندوات وحوارات حول العديد من القضايا الدولية السياسية والاجتماعية. وجرى تبادل وجهات نظر بين المعنيين من السياسيين حول العديد من المشاكل والنقاط الساخنة في الاوضاع الدولية لكن الهم الاقتصادي تصدر جميع الاهتمامات. فقد اجتمع وزراء المالية ومحافظو البنوك المركزية في الولايات المتحدة واوربا ووضعوا خططاً للاصلاح المالي. ولم يكن هذا الاجتماع على جدول اعمال المنتدى الرسمي ولكنه سرعان ما تحول الى اهم تطور في اعمال المنتدى. وكان هناك شبه اجماع على ضرورة وضع قيود وأسس جديدة لعمل المصارف والبنوك، وتشديد الرقابة عليها حتى لاتتكرر حالة الانفلات في الاقراض التي تسببت بحدوث الازمة، مع المطالبة بمنع البنوك من الدخول في اعمال المضاربة بأموال المودعين.
وقاوم مدراء العديد من المصارف والمؤسسات المالية محاولات وضع قيود وحدود لتصرفات البنوك، وعملوا بمختلف الوسائل لثني القيادات السياسية عن دعمها خطة الرئيس الامريكي باراك اوباما القاضية بتشديد الرقابة على المصارف وفرض ضرائب عليها وتحديد العلاقة بين رأس مالها ونسب الاخطار المحتملة في عملياتها الاستثمارية والمضاربات . واشتدت المطالبة بضرورة ايجاد نظام نقدي عالمي جديد. وهو ما طالب به الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في كلمته في الجلسة الافتتاحية في المنتدى ،او حتى بإيجاد عملة اخرى للاحتياطي لتحل محل الدولار.
ويلاحظ ان المنتدى فشل في الخروج في خطط ومقترحات موحدة لمواجهة الازمة الاقتصادي العالمية، وبقيت الخلافات محتدمة بين قادة البنوك والمؤسسات المالية الذين يرغبون بالعودة الى الاساليب التي قادت لأنفجار الازمة، وبين السياسيين الذين يؤيدون اخضاع البنوك لقيود وقواعد تحد من امكانية انفجار ازمات جديدة . واتضح في نهاية اعمال المنتدى تعمق هبوط الثقة بالحكومات والشركات والبنوك ومقدرتها على معالجة الازمة والتي وإن بدا انها اخذة في الانحسار الا ان تداعياتها ما زالت شديدة الوطأة وفي مقدمتها ازدياد معدل البطالة في العالم واتساع قاعدة الفقر وزيادة المديونية التي تهدد العديد من الاقتصادات في العالم .
ويقول محللون ان نتائج اعمال دافوس تؤكد عمق الازمة الرأسمالية، وتؤكد انتقال وتحول مركز القوة في العالم من القوة العظمى الاحادية الى قوة متعددة الاقطاب. اضافة الى تحول واضح نحو الشرق، أي الصين واسيا.