توقّعت وزيرة المال ريّا الحسن أن تتقدّم بمشروع الموازنة إلى مجلس الوزراء قبل نهاية هذا الشهر، إلا أنها كانت شديدة الوضوح عندما أشارت، في حديث صحافي، إلى أن ذلك قد لا يحصل إذا تعذّر التوافق «السياسي» على الإجراءات الضريبية المقترحة، ولا سيما زيادة الضريبة على القيمة المضافة. فهذا التوافق، برأيها، بات بمثابة «كلمة السر» المنتظرة، ومن دونه لا موازنة ولا من يحزنون
محمد زبيب ليس هناك خيارات كثيرة! هذا ما يحاول فريق رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري تسويقه في اللقاءات التي يجريها مع ممثلي الكتل النيابية الأساسية منذ فترة. فمشروع الموازنة الذي أعدّته وزيرة المال ريا الحسن يتضمن زيادة في الإنفاق العام تبلغ نحو 2000 مليار ليرة، منها نحو 1000 مليار ليرة زيادة على الإنفاق الجاري، ولا سيما خدمة الدين العام. وبالتالي، فإنّ المحافظة على نسبة العجز المحقّقة في العام الماضي، تستدعي، برأي هذا الفريق، القبول بزيادة الضريبة على القيمة المضافة بنسبة 50%، من 10% حالياً إلى 15%، أو القبول بخفض الإنفاق الاستثماري الإضافي الملحوظ في المشروع (نحو 1000 مليار ليرة)، وبالتالي زيادة الضريبة المذكورة بنسبة 20% في المرحلة الأولى، من 10% إلى 12%، ثم زيادتها إلى 15% في العام المقبل أو العام الذي يليه. لكن، هل الخيارات محدودة فعلاً؟ طبعاً لا، فالخيارات الضريبية متنوّعة أصلاً في ظل تركّز العبء الضريبي على الأسر المتوسطة والفقيرة والقطاعات الإنتاجية، فيما النشاطات الريعية المالية والعقارية معفاة على نحو شبه كلي من أي تكليف ضريبي، رغم أن هذه النشاطات باتت المصدر الرئيسي لتراكم الثروات الشخصية، وتُسهم في زيادة الفروق الاجتماعية... كذلك فإن زيادة الضرائب لا تبدو أولوية الآن في ظل «فضيحة» تراكم الديون الحكومية غير المستخدمة في حساب الخزينة العامّة، التي بلغت نحو 6500 مليار ليرة يُسدَّد نحو 500 مليار ليرة لخدمتها، وهدف تراكمها الوحيد هو امتصاص فائض السيولة لدى المصارف والمحافظة على معدّلات ربحيتها العالية (انظر الإطار).
الإجراءات المقترحة
تتوقّع الوزيرة الحسن أن توفّر زيادة هذه الضريبة بنسبة 50% إيرادات إضافية بقيمة 1200 مليار ليرة، وهي غير كافية لتغطية كل الزيادة الملحوظة على الإنفاق، وبالتالي تقترح إجراءات ضريبية أخرى، منها زيادة الضريبة على ربح الفوائد من 5% إلى 7%. وهذا الإجراء يوفّر زيادة في الإيرادات تقدّر بنحو 200 مليار ليرة، فضلاً عن استيفاء رسوم على إشغالات الأملاك العامّة البحرية (توفّر نحو 30 مليار ليرة)، وفرض رسم بنسبة 3% على الفروقات الإيجابية الناتجة من إعادة التقويم الاستثنائية للأصول الثابتة والعقارات والموجودات لدى الشركات (يوفّر نحو 120 مليار ليرة).
يسدد المقيمون فوائد باهظة على ديون لا حاجة فعلية إليهاليس هذا كل شيء. فالمشروع يتضمّن إجراءات أخرى كثيرة، بعضها ينطوي على أعباء إضافية، وبعضها الآخر ينطوي على خفوضات أقل أهمية، كالإعفاءات من رسوم التسجيل في المدارس الحكومية وتوسيع الشطور المعفاة من الضرائب المباشرة (تقدّر قيمة هذه الخفوضات بنحو 250 مليار ليرة). كذلك فإن الأفكار المتداولة تتضمن إجراءات من نوع آخر يمكن اعتمادها بدائل لزيادة الضريبة على ربح الفوائد، التي يعارضها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، منها إصدار سندات خزينة خاصّة بفائدة مخفوضة تكتتب بها المصارف، أو أن تشتري المصارف حصّة الدولة (50%) من مؤسسة ضمان الودائع بقيمة 500 مليون دولار، تُشطَب من خلالها الديون المتراكمة على الدولة لمصلحة هذه المؤسسة، فضلاً عن شطب مصرف لبنان، مرّة جديدة، ديوناً مستحقة على الحكومة يحملها في محفظته تحت عنوان «فروقات إعادة تقويم أسعار القطع والذهب»، وهذا الإجراء سبق أن قام به مصرف لبنان، إذ شطب نحو 1.8 مليار دولار من ديون الحكومة.
خياران لا ثالث لهما
في الحصيلة، فإنّ المطروح من فريق الحريري هو أحد خيارين لا ثالث لهما: 1ـــــ تحقيق زيادة صافية في الإيرادات بقيمة 1500 مليار ليرة، في مقابل زيادة النفقات بقيمة 2000 مليار ليرة، على أن يُموّل الباقي عبر الاستدانة، علماً بأن هذا الخيار يُطرح بطريقة الابتزاز، إذ إن الإنفاق الإضافي يُصوّر كما لو أنه مخصص كلّه للاستثمار، فيما المشروع لا يتضمّن سوى زيادة بقيمة 350 مليار ليرة للكهرباء، ومثلها للمياه، و90 ملياراً ليرة للطرقات والنقل، فضلاً عن زيادات بقيمة 160 مليار ليرة للمشروع الأخضر والجامعة اللبنانية والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، و350 مليار ليرة زيادة على الرواتب والأجور ومعاشات التقاعد، وهي ناجمة عن النمو الطبيعي وعمليات التوظيف والتقاعد التي شهدتها بعض المؤسسات، ولا سيما الأمنية منها... أي إن مجمل الزيادات المذكورة يبلغ 1300 مليار ليرة، فيما الباقي سيذهب كزيادة على خدمة الدين العام التي ستظهر عليها في هذا العام آثار عمليات امتصاص السيولة الجارية بهدف استيعاب الزيادة المحققة في الودائع وضمان معدّل ربحية مرتفع للمصارف لكي تستمر في الاحتفاظ بهذه الودائع وجذب المزيد منها. 2ـــــ تحقيق زيادة صافية في الإيرادات بقيمة 1000 مليار، في مقابل عدم زيادة الإنفاق بأكثر من 1500 مليار ليرة. وهذا الخيار يُطرَح بطريقة الابتزاز أيضاً، إذ إن القبول به يعني القبول بعدم زيادة الاستثمارات والمساهمات بالقيم المذكورة، باعتبار أن أولوية خدمة الدين العام تبقى ثابتة في كل الأحوال، وهذا يعني أن الاستثمار في زيادة الطاقة الإنتاجية الكهربائية والتجهيزات المائية وتعزيز شبكة النقل العام سيكون بواسطة القطاع الخاص، إذ تُطرح أشكال للمشاركة عبر الـIPP و BOT، وهذه الأشكال تخدم أيضاً أولوية الأهداف النقدية ومصالح المصارف، لأنها لا تنطوي فقط على منافع خاصة، بل أيضاً على قنوات لتوظيف جزء من فائض السيولة المتراكم.
زيادة نسبة الفقراء
الضريبة على الربح العقاري قادرة على تحقيق إيرادات بما لا يقل عن 1000 مليار ليرةإذاً، الخيارات المطروحة من جانب فريق الحريري تنحصر بين زيادة الضريبة على القيمة المضافة إلى 15% وزيادتها إلى 12%، وفي الحالتين ستترتب الكلفة على ميزانيات الأسر. إذ إن دراسة قامت بها الجامعة الأميركية، بالتنسيق مع وزارة الشؤون الاجتماعية، في إطار مشروع بناء القدرات للحد من الفقر، توصّلت إلى نتائج كارثية لا يريد أن يتفحصها أحد. فزيادة هذه الضريبة بنقطتين مئويتين ستؤدي إلى خفض الإنفاق الاستهلاكي لدى الأسر الفقيرة بنسبة 11%، أما زيادتها إلى 15% فستؤدي إلى المزيد من الانخفاض في الإنفاق الاستهلاكي لكل الأسر... كذلك فإن نسبة اللبنانيين الذين يعيشون تحت خط الفقر الأدنى (2.4 دولار في اليوم) سترتفع من 8% حالياً إلى 10% إذا ازدادت الضريبة إلى 12%، وستبلغ نسبة الفقر المدقع 16% إذا ازدادت الضريبة 15%. أما نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر الأعلى (4 دولارات في اليوم)، فمن المتوقع أن ترتفع من 28% حالياً إلى 35% و50% إذا ازدادت الضريبة على القيمة المضافة إلى 12% و15% على التوالي. لقد رفض فريق الحريري مناقشة بعض البدائل التي طرحها ممثلو حزب الله في اللقاءات الجارية بين الفريقين للتوافق على الإجراءات الضريبية. فهؤلاء قدّموا أفكاراً أولية تتعلق بفرض ضريبة على الربح العقاري واعتماد معدّلات متنوّعة للضريبة على القيمة المضافة، إذ يمكن رفعها إلى أكثر من 10% على بعض السلع المصنّفة «كماليات»، أو التي لا تدخل في سلّة استهلاك الأسر الفقيرة والمتوسطة... إلا أن الرئيس الحريري رفض بلورة هذه الأفكار، رغم المرونة التي أبدتها الوزيرة الحسن، بذريعة أن الحكومة بحاجة إلى إيرادات إضافية سريعة ومباشرة، فيما الضريبة على الربح العقاري يحتاج إعدادها وتطبيقها إلى وقت طويل يتجاوز سنة. أمّا اعتماد المعدّلات المختلفة للضريبة على القيمة المضافة، فقد يؤدّي إلى تعقيدها... علماً بأن هذه الذرائع واهية وهدفها المحافظة على النظام الضريبي القائم من دون أي تعديلات جوهرية، وذلك محاباة للأثرياء والنشاطات الريعية واستسهالاً للجباية البسيطة والسريعة، ولو على حساب مستوى معيشة أكثرية الأسر. فالضريبة على الربح العقاري يمكن تطبيقها في غضون 6 أشهر، وهي قادرة على تحقيق إيرادات بما لا يقل عن 1000 مليار ليرة في حال اعتماد معدّلات منخفضة لا تؤثّر على النشاط العقاري الحقيقي، بل على المضاربات الحامية في السوق. كذلك إن لبنان يتبنّى أصلاً معدّلين للضريبة على القيمة المضافة: صفر و10%، و49% من الدول التي تعتمد مثل هذه الضريبة تتبنّى أكثر من معدّلين لها، بحسب وثيقة أعدت لمؤتمر الحوار الدولي عن القضايا الضريبية المعني بضريبة القيمة المضافة المعقود في روما عام 2005.
الفضيحة
قلّة من اللبنانيين، وربما السياسيين، تدرك أن الحكومة تحتفظ حالياً بنحو 6500 مليار ليرة كفائض في حساب الخزينة، وبالتالي يسدّد المقيمون فوائد باهظة على هذه الديون من دون أي حاجة فعلية إليها، سوى الإصرار على اعتماد أولويات نقدية مطلقة تفرض مواصلة جذب الودائع المكلفة إلى المصارف المحلية، ثم الاضطرار إلى امتصاصها عبر شهادات الإيداع التي يصدرها مصرف لبنان وسندات الخزينة التي تصدرها وزارة المال. إن هذا الفائض في حساب الخزينة يرتّب زيادة هائلة في خدمة الدين العام في الموازنة، لكنّه يمنح في المقابل أرباحاً عالية للمصارف، إذ بلغت أرباح المصارف الثلاثة الأولى في لبنان في العام الماضي نحو 750 مليون دولار، فيما تقدّر أرباح القطاع برمّته بأكثر من 1300 مليون دولار... وهذا ما يسمّى «خدمة العلم» الجديدة. فقد بات جميع المواطنين مجنّدين في خدمة عدد من المصارف والمنتفعين من الواقع النقدي القائم. هذه الكلفة المترتّبة على عمليات امتصاص السيولة الفائضة هي التي تدفع بفريق سعد الحريري إلى طرح زيادة الضريبة على القيمة المضافة لتوفير إيرادات كافية لخدمة الدين العام من دون الإضرار بالصورة الوهمية المرسومة حول ضبط العجز وتحقيق الفائض الأولي. وهذا الأخير، أي الفائض الأولي، ليس إلا التعبير الحقيقي عن تجنيد اللبنانيين في خدمة القلّة من الأثرياء، فهو ينجم عادة عن جباية إيرادات من المقيمين أكثر من الإنفاق عليهم بعد استثناء كلفة الفوائد من هذا الإنفاق. لقد اجتذب لبنان نحو 20 مليار دولار من الودائع الإضافية في العام الماضي، وبات مجمل الودائع يمثّل أكثر من 350% من مجمل الناتج المحلي، وهذا مؤشّر سلبي بكل المقاييس والمعايير. إلا أن خطورته الأبرز تكمن في الكلفة المترتّبة على امتصاص هذا الكمّ من الودائع في ظل التراجع المقلق في الاقتصاد الحقيقي. فالتقديرات تفيد بأن دين الدولة (الحكومة ومصرف لبنان والمتأخرات المختلفة) بات يبلغ نحو 75 مليار دولار، لا 51 مليار دولار، كما هو معلن رسمياً. وهذا الدين المخيف يكلّف المقيمين أكثر من 4 مليارات دولار سنوياً تذهب زيادةً على ثروات أقل من 0.05% من الأسر. فالدين المعلن لا يحتسب قيمة سندات الخزينة الفائضة في حسابات وزارة المال (4.5 مليارات دولار)، ولا يحتسب أيضاً قيمة شهادات الإيداع لدى مصرف لبنان والديون المستحقّة عليه (لا أحد يعلم بدقّة قيمتها الفعلية). أمام هذا الواقع، أليس من حق كل مواطن أن يرفض زيادة ضرائب الاستهلاك، وأن يرفض بالتالي أن يبقى رهينة جذب الودائع بلا أي طائل؟ أليست هذه جريمة يستحق مرتكبها العقاب.