إغلاق عروق أميركا اللاتينية

إغلاق عروق أميركا اللاتينية
24 Apr
2015

غسان ديبة - الاخبار

 

«إن عروق اميركا اللاتينية مفتوحة. ارضها وثمارها واعماقها الغنية وشعبها وقدراتهم، كلها كان يمتصها الرأسمال الاوروبي، ومن ثم الاميركي» أدواردو غاليانو

في القرن الواحد والعشرين، بدأت اميركا اللاتينية بالتحول نحو اليسار، بعد عقود من القمع السياسي والظلم الاقتصادي والتدخل العسكري، ساقتها الديكتاتوريات اليمينية والولايات المتحدة، في انحاء القارة، لحماية الطبقات الاوليغارشية، ومصالح واشنطن، ولمحاربة المد اليساري. سبقت هذا التحول فترة من اشاعة الديمقراطية وسقوط الديكتاتوريات في ظل استمرار الظلم الاقتصادي، متغطيا هذه المرة ليس بمحاربة الشيوعية، بل بايديولوجيا الاقتصاد الراسمالي الحر، وما عرف في التسعينيات بتوافق واشنطن والخصخصة والتجارة الحرة، والى ما هنالك من طلاسم كانت في جعبة صندوق النقد والبنك الدوليين، وتلامذة الفكر الاقتصادي الحر، الذين عرفوا بـ»صبية شيكاغو».

وهؤلاء على الرغم من ادعاءاتهم بتوافق الراسمالية والحرية، لم يتوانوا عن خدمة الديكتاتوريات، وعلى رأسها ديكتاتورية بينوشيه، تلك التي قتلت واخفت عشرات الالاف وحطمت امال الملايين من التشيليين الفقراء والعمال والمثقفين وخيرة شبابها باشتراكية ديمقراطية في سبعينيات القرن الماضي. بدأ هذا المد التغييري اليساري في فنزويلا في 1999، وامتد في السنوات التالية ليشمل اكثرية الدول، ومن بينها البرازيل ونيكاراغوا والاكوادور والسلفادور وبوليفيا والارجنتين والاوروغواي والتشيلي وغيرها. فوجئ الاميركيون بما يحدث، في ما سمّاه الرئيس الاميركي مونرو حديقتهم الخلفية، فهم كانوا يعتقدون ان الديمقراطيات في اميركا اللاتينية في عهد ما بعد الاتحاد السوفياتي ستشبك مصالحها معها، وستستمر في اتّباع النموذج النيوليبرالي، فاذا بهذا النموذج يلاقي هناك بداية نهايته، لتأتي الازمة الراسمالية العالمية في 2008 وتعلن انتهاءه فعليا. طبعا، لا الولايات المتحدة ولا الرأسمالية المحلية ستقفان مكتوفتي الايدي امام هذه التحولات، وستحاولان عكسها كما تفعلان على نحو مكثف في فنزويلا، ولكن طرق المواجهة ستختلف باختلاف موازين القوى والنظرة الايديولوجية في واشنطن. المشهد الصراعي اليوم في ثلاثة بلدان كالتالي: كوبا: تسارعت وتيرة الانفتاح الاميركي على كوبا، وذلك بسبب رؤية اوباما المختلفة واقتناعه بفشل السياسات الاميركية على مدى الخمسين سنة الماضية في اسقاط النظام الكوبي، إذ لم يفلح الحصار الاقتصادي في كسر ارادة الشعب الكوبي، حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي أدى إلى ما عرف بالفترة الخاصة، حيث انهار الانتاج والاستثمار والصناعة والتجارة الخارجية.

 

وكان التحول نحو اليسار في اميركا اللاتينية، وخصوصا في فنزويلا، دعما للاقتصاد الكوبي، ورفعا للعزلة السياسية التي عانتها خلال الحرب الباردة. اليوم اضطر أوباما إلى ان يلتقي ليس زعيما «ديمقراطيا» لكوبا، بل التقى راوول كاسترو، اي الرجل (لمن لا يعرف ويظن انه ورث زعامة اخيه) الذي كان من اوائل قادة الثورة في الهجوم على ثكنة المونكادا في 1953، ومن اكثرهم شيوعية، اذ كان عضوا في الشبيبة الاشتراكية، معتنقا الماركسية قبل اكثرية قادة الثورة. وقد عرف بتشدده منذ ذلك الحين. تراجع الولايات المتحدة هو نصر كبير لكوبا، فجميع الاجراءات الاميركية كانت دائما من جانب واحد، اذ لم ترغب الثورة الكوبية يوما بالانقطاع عن جارتها التي تبعد فقط نحو 90 ميلا عنها. فنزويلا: منذ شباط 2014 تحاول القوى اليمينية اسقاط النظام عبر استعمال العنف في الشارع. لا شك ان الرأسمال الفنزويلي يريد الخلاص من التهديد المسلط دائما عليه، ويريد ايضا استعادة مواقعه في السلطة السياسية، لكن الارضية التي تسمح له بذلك هي الشكل الذي اتخذته «اشتراكية القرن الواحد والعشرين»، التي وإن اممت بعض القطاعات الاقتصادية المهمة، وعلى رأسها النفط، الا انها سمحت للقطاع الخاص بالاستمرار حتى في القطاعين المالي والمصرفي، ولم يتعرض الاثرياء لاي مصادرة لاصولهم او لثرواتهم، بل استمروا في السيطرة على اجزاء مهمة من الاقتصاد، ومن بينها الاعلام الذي يستخدم يوميا في التحريض المغرض على الحكومة والاشتراكية، كما ان الاشتراكية الفنزويلية اتخذت منحى توزيعياً، مستخدمة عائدات النفط الطارئة نتيجة التأميم ورفع الاتاوات وارتفاع اسعار النفط في اكبر سياسة اجتماعية شملت السكن والنقل والصحة والتعليم وغيرها، ما اخرج ملايين الفنزويليين من الفقر والاهمال والتهميش. كل هذا اتى على حساب اقامة اقتصاد اشتراكي منتج. عندما انخفضت اسعار النفط، تكشّفت اخطاء هذا النموذج، ودخلت البلاد في ازمة اقتصادية خانقة، تستفيد منها الطبقات البورجوازية في خلق القلاقل والاضطرابات، لكن اغلبية الشعب الفنزويلي، التي احست للمرة الأولى في تاريخها، انها تملك قدَرها ووطنها وثرواته، لن تسمح باعادة عقارب الساعة الى الوراء. البرازيل: كانت البرازيل دائما من اكثر البلدان التي تتمتع بسوء كبير في توزيع الدخل والثروة. وكان لوصول حزب العمال الى السلطة في 2003 وقع ايجابي على الاقتصاد البرازيلي، فزادت اعداد الطبقة الوسطى على نحو كبير، وانخفضت معدلات الفقر، وتخلصت البرازيل من عبء دينها الخارجي. كل هذا طبعا لم يرق الاوليغارشية الداخلية، التي استعملت فضيحة فساد لاطلاق تظاهرات خلال الاسابيع الماضية، وصلت الى حد رفع لافتات تطلب من الجيش تنفيذ انقلاب عسكري! ويرتبط الكثير من المنظمين الذين يتغطون بلباس المجتمع المدني بمؤسسات يمينية متطرفة في الولايات المتحدة. تحاول الطبقات الاوليغارشية والثرية عكس التحولات التي حصلت، مستغلة الديمقراطية التي تمسكت بها الاحزاب اليسارية، وعدم جذرية التوجهات الاشتراكية والحفاظ على القطاع الخاص والاسواق، بما يحفظ قوة هذه الطبقات ويفتح المجال ايضا للفساد المالي، ولكن شعوب اميركا اللاتينية نهضت واغلقت عروقها، التي كانت مفتوحة منذ العهد الكولونيالي، ولن تسمح للمغامرين اليمينيين بان يعيدوا 11 ايلول 1973، إذ لن يكون هناك بنوشيه اخر، لان النهضة عمت اليوم اميركا اللاتينية كلها، كما حلم تشي غيفارا عندما ذهب الى بوليفيا، التي اصبحت اليوم يحكمها الاشتراكيون والفلاحون والسكان الاصليون ممن احبهم ومات من اجلهم.

الأكثر قراءة