غسان ديبة - الاخبار
كلما تطورت الصناعة الكبرى أصبح خلق الثروة الحقيقية يعتمد على العلوم والتكنولوجيا... ويصبح تطور الفرد الاجتماعي أصل الثروة والإنتاج كارل ماركس
عندما اندلعت الأزمة الرأسمالية في عام 2008، نشر الأميركيون، كعادتهم، رسوماً كاريكاتورية من وحي الأزمة. في إحداها يجلس مديرون حول طاولة الاجتماعات. يقول رئيسهم، وخلفه رسم بياني لسعر سهم شركة ينهار: «من يؤيد خطة للإنقاذ المالي فليقل كارل ماركس». وفي رسم كاريكاتوري آخر، يجلس ماركس خلف بيانو وخلفه رجل يصرخ: «العبها مرة أخرى يا كارل»، في اقتباس لعبارة (Play it again Sam).
إن رد فعل الدول (لا الأسواق ولا الميكانيزمات الداخلية للاقتصادات الرأسمالية) استطاع أن ينقذ النظام الرأسمالي العالمي من الانهيار، وأبعد شبح ماركس هذه المرة، فقد استعانت الدول بكينز، الذي أقامت الرأسمالية علاقة معقدة جداً معه، بالمقارنة مع كل الاقتصاديين الكبار الآخرين، الذين أيدوها أو عارضوها منذ آدم سميث حتى الآن. لعبها كينز وأنقذ الرأسمالية مرة أخرى، ولكنْ هناك تطور يحدث الآن في بنية الرأسمالية لا علاقة له بالأزمات الدورية أو الانهيارات المالية أو حتى باتساع الفوارق في الدخل والثروة، وهذا التطورالمتمثل بالبطالة التكنولوجية كان كينز نفسه قد تكلم عنه عندما حاول النظر الى مستقبل الرأسمالية على المدى البعيد. هذه البطالة التكنولوجية لا يمكن حلها عبر السياسات المالية أو النقدية، التي تنفع للقضاء على البطالة والركود خلال الأزمات الدورية. ولكن، هل نحن أمام احتمال (إذا حدث سيكون بعيداً جداً في المستقبل) يمكننا أن نضعه في مصاف حتمية فناء البشرية، أي أننا نعلم أنه آت، ولكننا اليوم لسنا بحاجة للقلق حوله؟ كان ماركس أول من وضع نظرية الاستبدال التكنولوجي، فالرأسماليون في سعيهم للربح والتنافس في ما بينهم يستثمرون في الآلة من أجل زيادة الإنتاجية ورفع القيمة الزائدة النسبية.
الموجة الأولى من الاستبدال التكنولوجي، التي استبدلت بشكل كبير العمالة غير الماهرة في البلدان الصناعية المتقدمة، تم تلافي تأثيرها الكارثي، حسب راندال كولينز، الذي تنبأ في عام 1980 بانهيار الاتحاد السوفياتي، عبر خمسة مخارج: التوظيف والاستثمار الحكومي وتوسع التعليم والتوسع الجغرافي للأسواق وخلق التكنولوجيا نفسها لوظائف جديدة، وأخيراً الهروب الى عالم المال. أما الآن، فجميع هذه المخارج استنفدت والموجة الثانية من الاستبدال والتي تتمثل باستبدال العمالة الماهرة وما يسمى وظائف الياقات الزرقاء ستؤدي الى بطالة بنيوية كبرى في السنوات الثلاثين المقبلة قد تصل الى 50% في 2045! يؤيد اقتصاديان من جامعة أكسفورد هذا الاستنتاج. وفي بحث نشر في عام 2013 تنبآ بأن نصف الوظائف ستستبدل في السنوات العشرين المقبلة بواسطة الروبوتات والحواسيب! وفي 2014 نشر أريك برينيولفسون وأندرو ماكافي من مركز الأعمال الرقمية في جامعة MIT الأميركية كتاب «الزمن الثاني للآلة»، وفيه أهم تحليل لصعود الروبوتات والحواسيب واستبدالها الحتمي للإنسان في الوظائف التي تحتلها الطبقة الوسطى الآن في التصنيع والخدمات. في عامي1857-1858 كتب ماركس ملاحظات الغروندريسه (Grundrisse)، ومن ضمنها حوالى 20 صفحة أصبحت تعرف بالـ»الأجزاء حول الآلات»، وفيها رأى ماركس ظهور عصر الآلات المسيرة ذاتياً، حيث يصبح العامل هامشياً في الإنتاج. وما تتضمنه هذه الأجزاء ليس فقط حتمية ظهور عصر البطالة التكنولوجية الكاملة، وإنما أيضاً انتهاء تحديد قيمة السلع بواسطة وقت العمل، التي هي أساس نظريته حول طبيعة الرأسمالية، والبدء بعصر إنساني جديد اكتملت الظروف المادية له. إن الرأسمالية لا يمكن أن تكون الشكل الاقتصادي لهذا التاريخ الإنساني الجديد لأنها مبنية على العمل المأجور واستخراج القيمة الزائدة وتحقيق هذه القيم عبر دوران رأس المال والاستهلاك. بشكل أبسط، في ظل أتمتة كاملة أو شبه كاملة، كيف تنتج المداخيل وتوزع بين الأفراد والطبقات في ظل نظام رأسمالي؟ إن تناقضات الرأسمالية تندفع بشكل سريع جداً الى واجهة التاريخ ويبرز خلالها تناقض الرأسماليين وعجزهم التاريخي، إذ في الوقت الذي يدفعون فيه باتجاه الاستبدال التكنولوجي عبر الآلات والروبوتات، فإنهم يحاربون خفض ساعات العمل، التي بقيت مستقرة بعدما انخفضت كثيراً منذ بدايات الرأسمالية. والهجوم الشرس على خفض ساعات العمل في فرنسا الى 35 ساعة من قبل رأسماليي الداخل والخارج ما هو إلا التجلي الأوضح لرفض الرأسماليين التخلي عن العمل المأجور، الذي هو أصل أرباحهم وسلطتهم الاقتصادية، فعند انتهائه هم سينتهون. وهنا تكمن لعبة ماركس الأخيرة، فبينما كان العالم من حوله يتغير، و»كل شيء جامد يذوب في الهواء»، رأى ماركس محرك ومصير التطور الرأسمالي في الآلة، إذ إن «طاحونة اليد أعطتنا الإقطاعي، أما الطاحونة البخارية فتعطينا الرأسمالي». وفي قمة فكره الديالكتيكي والعلمي، رأى في الأشكال الأخيرة للآلة نهاية نظريته للقيمة، ولكن في الوقت نفسه نهاية التنظيم الرأسمالي للإنتاج والعمل وبداية تحقيق الإنسان لنفسه في مجتمع اشتراكي لا رأسمال فيه ولا رأسماليين ولا بروليتاريين، وإنما أفراد أحرار في اختيار مصيرهم في العمل الخلاق والاجتماعي والحر.