من سايكس ـ بيكو إلى حرب المئة عام

من سايكس ـ بيكو إلى حرب المئة عام
04 Jul
2014

عطا الله السليم - السفير

بعد نحو أربعة أعوام على بدء أحداث الربيع العربي، تداعت حدود الدول المركزية العربية التي تموضعت جغرافياً بعد اتفاق «سايكس - بيكو» الشهير. في الأصل، لم تعرف الشعوب العربية مخاضاً لولادة كياناتها السياسية ولم تشهد تفاعلاً حضارياً وثقافياً بين مكوّناتها الدينية والطائفية والعشائرية والاثنية، على عكس ما شهدته البلاد الاوروبية التي اتحدت بعد أعوام من الصراع المتعدد الأوجه بين الكنيسة والتيار المدني، الذي أسس لثقافة سياسية قائمة على مدنية العلاقات وضرورة العقد الاجتماعي كإطار ناظم للعلاقة بين المواطن والدولة وبين التيارات الدينية نفسها، تحديداً الكاثوليك من جهة والبروتستنات، بوصفهم يمثلون حركة إصلاحية من جهةٍ أخرى. دار هذا الصراع منذ القرون الوسطى وصولاً الى الثورة الفرنسية العام 1789 التي اعتبرت آنذاك فاتحة عهد أوروبا الحديثة، ثمّ تلاها توحيد ألمانيا في عهد بسمارك العام 1871. اقتنعت المكونات المختلفة للشعوب الاوروبية بأن ما يحميها هو كيانها السياسي القائم على الحقوق المدنية، وعلى عقد اجتماعي يضمن للجميع حقوق المواطنة، بغض النظر عن الانتماء الديني أو الايديولوجي، وظهر في القرن الثامن عشر ما عرف بالقاموس السياسي بـ«الدولة - الامّة» the nation state. أما الشعوب العربية، فلم تشهد تفاعلاً على هذا المستوى. اذ إن منطقتنا وقعت تحت رحم ثقل الاحتلال العثماني، وبعد الحرب العالمية الاولى ورثت الدول الاستعمارية الصاعدة آنذاك، أي فرنسا وبريطانيا، هذا الدور. فعملت على القاعدة المعروفة «فرّق تسد» بين طوائف عدّة مختلفة الحجم والدور والتأثير، ولم تعرف الدولة تأسيساً رسمياً إلا بعدما نالت هذه الدول استقلالاً رسميا أيضاً. وفي حقبة ما بعد الاستقلال التي كان يؤمل أن تكون مساحة حوار وصراع، تمكنت البورجوزيات العربية المرتبطة عضوياً بالاستعمار، من اختزال المشهد العربي. تجلّى هذا الامر في انقلابات عسكرية حدثت في حقبة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في مصر وسوريا والعراق وليبيا واليمن. لقد ولدت الدولة المركزية العربية بفعل إسقاطي، من فوق الى تحت، بدلاً من أن تنشئ الكيانات السياسية من خلال مسار متعرج تتداخل في تحديده مكونات الشعوب العربية المختلفة، ولم توجد الدساتير في العالم العربيّ لانّ الانظمة صادرت حقوق المواطنين بفعل المقولة السائدة آنذاك: «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». أسست هذه الممارسة السياسية الإقصائية لعهد من الديكتاتورية تحكّم برقاب الناس وألغى كل ما يمت بصلة للحرية، وترافق مع تضييق أمني واستخباراتي على حرياتهم السياسية والنقابية والإعلامية. نشأت الكيانات السياسية العربية بفعل قوّة الاستعمار أولاً وبفعل الديكتاتورية ثانياً، والتي سقطت بعدما أحرق البوعزيزي جسده، وهو ما يبرهن على مدى ضعفها وهشاشتها في الأساس. وكان الاستعمار قد ترك لنا مشاكل عديدة جرّاء التقسيم الجغرافي للمنطقة، لا سيما مسألة الأقليات. فلم تحل مسألة الأكراد في العراق وسوريا، ولا مسألة الامازيغ في المغرب والجزائر، ولا القبائل الليبية التي اتحدت طوعاً في المملكة الليبية المتحدة بعد اكتشاف النفط، قبل أن يحدث انقلاب عسكري فرض اتحادها بالقوة، وهو ما يفسر انفراط عقد الدولة المركزية سريعاً بعد الثورة التي أطاحت معمر القذافي في آذار العام 2011. أمّا اليمن، فقد عرف نزاعاً بين شماله وجنوبه انتهى بتوحيد البلاد العام 1990، فيما ظلت البلاد أسيرة الصراعات الجهوية والقبلية في ظلّ دعم خليجي لنظام علي عبدالله صالح منذ مجيئه للحكم وحتى موعد رحيله. ثمة كيانات عربية خارج نادي «الربيع العربي» شهدت أنظمة عسكرية ودولاً هشة وغلبة الطابع الميليشياوي وانتشار الفساد بكـل أنواعـه، كالسودان والصومال وجزر القمر، وقد صنفت تلك الدول في عداد «الدول الفاشلة» في أدبيات الأمم المتحدة. باختصار، شعوب المنطقة العربية هي جماعات جُمّعت على عجل، وأُسقطت عليها دول مركزية باصطناع، لانّ عملية الاندماج والتفاعل الضروريين لولادة هذه الدول لم تحدث أبداً، وهذا ما يفسّر عملية القطع التاريخي لمسار نشوء الدولة وتطوّرها في العالم العربي. يستغرب بعض الكتّاب والباحثين كيف انفرط عقد الدولة الليبية سريعاً بعد الثورة، وكيف انقسم اليمن الى أقاليم، وكيف أصبحت سوريا ساحةً للجهاد العالمي، وكيف انقسم السودان (قبل «الربيع العربي»)، وكيف تمددت «داعش» في سوريا والعراق وستتمدد أكثر - وفق خريطتها - الى خمس دول عربية مركزية أخرى. ويجهل حقيقة أن الشعوب العربية الآن ليست بصدد التفكك disintegration، ذلك أنها لم تعرف عملية التوحد بين مكوناتها المختلفة integration في الأصل. ويبدو أن الربيع العربي بصدد تغيير الجغرافيا السياسية في المنطقة، وهو ما سيولّد حراكاً على أكثر من مستوى، خصوصاً على صعيد خيارات الكتلتين الأساسيتين في المنطقة أي السنّة والشيعة. لقد أنهى «الربيع العربي» «سايكس بيكو»، ولكن ليس بالوحدة العربية بل بنقيضها. ولعلّ تنبؤ وزير الخارجية الأميركية الأسبق هنري كيسينجر بأن المنطقة ستشهد حرب المئة عام بين السنّة والشيعة على غرار حرب المئة عام بين الكاثوليك والبروتستانت هو تنبؤ صحيح نشهد وقائعه اليوم.

الأكثر قراءة