برج حمود ليست المحلّة الأولى ولا الأخيرة التي ينفجر فيها العنف «العنصري» ضد من يعتبرهم السكان «غرباء». ما يميّز هذه المحلّة المدينية، القائمة في ضاحية بيروت الشرقية، ان غالبية سكانها من الارمن، اي من فئة تنظر الى نفسها كأقلية «مضطهدة»، وهذا ما يجعل من ممارستها الاضطهاد ضد اقلية اخرى (الاكراد) علامة فارقة في موسم صعود «العنصرية» في لبنان
فراس أبو مصلح - الاخبار
لا توحد حالة الفقر العامة والذاكرة المثقلة بالمحن التاريخية خليط «الأقوام» الذي يسكن محلة برج حمود في الضاحية الشرقية لبيروت، حيث لا جدة في أن تقوم أقلية مسكونة بعقدة الاضطهاد باضطهاد أقلية أخرى، غير أن العجب من ذلك يبقى هو نفسه مع كل حلقة من حلقات هذا المسلسل اللامتناهي. في مناخ التكتلات العصبوية المشحون بكراهية «الآخر» وإلباسه كل المثالب الخلقية والسلوكية وتحميله مسؤولية الأزمات الاجتماعية الاقتصادية. يتحول أي إشكال «فردي» كالذي حصل يوم السبت الماضي في برج حمود إلى صاعق انفجار للعنف الكامن، وإلى مناسبة لتطهير «جنة» الصفاء العرقي والمذهبي من «دنس» الآخر!
مشهد هجوم الجمع الغاضب على أحد منازل السوريين الأكراد، حتى قبل إصابة المواطن إيلي كلش أثناء محاولته تهدئة النفوس المشحونة، يوضح أن سبب الإشكال أبعد بكثير مما هو مُعلن، أي «تلطيش» إحدى الصبايا. تداعيات الحادث لم تترك مجالاً للشك حول الأسباب الحقيقية الكامنة، إذ خرجت مجموعات من شباب المحلة الغاضب لتهاجم من تصادف من الأكراد، فيما تحدث البعض عن اقتحام العديد من منازل الأخيرين، والاعتداء على ساكنيها؛ ولم يتم ضبط الانفلات الأمني على الرغم من التدخل الكثيف للجيش وقوى الأمن الداخلي، وتواصلت عمليات كر وفر بين القوى الأمنية والزمر الشبابية على مدى الأيام القليلة الماضية. وفيما تبقى تفاصيل الحوادث ذات الصلة بالإشكال برسم تحقيقات قوى الأمن الداخلي، لم تخفَ على أحد الدعوات العلنية لطرد الأكراد من المنطقة، وإغلاق محالهم التجارية بذريعة انها «تحرم اللبنانيين قوتهم»، فيما سارعت بلدية المحلّة الى الاستنجاد بالعنصرية المقيتة لتعلن منع تجوّل «الغرباء» ليلاً، على غرار ما اقترفته مجموعة متزايدة من البلديات.
ليس في الإشكال الأخير جديداً نوعياً، فقد سبق أن شهدت برج حمود فصلاً مشابهاً منذ أكثر من سنتين، غير أن المنطقة الشعبية المكتظة في ضاحية بيروت ربما كانت من الأكثر تأثراً بتداعيات النزوح السوري، إذ شهدت زيادة كبيرة في عدد اللاجئين السوريين الأكراد الذين زادوا فقراً على فقر المنطقة وأزمتها، فبات هؤلاء بأعدادهم الكبيرة وأجورهم الزهيدة ينافسون اليد العاملة المحلية، وباتت دكاكينهم ومحالهم الصغيرة تنافس نظيراتها لأصحابها الأرمن. لم تستطع بلدية برج حمود الاستجابة لصرخات جماهيرها الغاضبة بطرد السوريين الأكراد من نطاقها، فـ«لا قانون يسمح للبلدية بمنع السوريين من الإقامة في المنطقة»، كما قال رئيس بلدية برج حمود إنترانيك مصرليان، غير أن البلدية باشرت منذ ايام حملة إغلاق المحال التجارية غير المرخصة التي يملكها «أجانب». معظم المحال في المنطقة غير مرخصة، غير أنها تدفع بدلات الإيجار وفواتير الماء والكهرباء ورسوم البلدية على أنواعها، يقول أحد السكان الأكراد، معتبراً أن البلدية التي يهيمن عليها حزب الطاشناق الأرمني تقيم عملياً «دولة ضمن الدولة»، وتمارس «استبداداً وعنصرية» بحق الأكراد، عبر اشتراط حصول المحال على موافقات من غرفة التجارة والصناعة وغيرها، تحت طائلة الإغلاق. تسأل «الأخبار» نائب رئيس بلدية برج حمود جورج كريكوريان عما إذا كان قرار الإقفال يشمل جميع المحال غير المرخصة، أم تلك التي تعود ملكيتها لغير اللبنانيين، فيقول إن الجواب عند قوى الأمن الداخلي، لكن «بالمبدأ نعم»، رغم تطبيق الإجراء هذا على بعض المحال التي تعود ملكيتها لمواطنين أرمن، شارحاً أن «الأجنبي يحتاج إلى أذونات من الأمن العام ووزارة العمل» وغيرها من الجهات الرسمية ليفتح «مؤسسة تجارية» (أو دكانة صغيرة) في برج حمود. والجدير ذكره أن جميع محاولات الحصول على إجابة واضحة حول الموضوع من مصدر رسمي باءت بالفشل، فقد أفادت العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي أن إقفالها المحال غير المرخصة جاء بتكليف من محافظ جبل لبنان، وأن التفاصيل لدى الأخير، ذاكرة أن أبرز أسباب إغلاق المحال هو «المضاربة الاقتصادية»؛ أما المحافظ أنطوان سليمان، فنفى علمه بالموضوع كلياً، محيلاً على قائم مقام المتن مارلين حداد التي تعذر الاتصال بها. «أي جماعة لا تخلو من عناصر صاحبة تصرفات غير لائقة، لكن لا يجوز تحميل جماعة كاملة وزر أفعال العناصر تلك»، قال كريكوريان لدى سؤاله عن كيفية تعاطي السلطة المحلية (البلدية) مع دعوات طرد الأكراد، شارحاً أن الصلاحية القانونية للبلدية كسلطة محلية «محدودة جداً وشبه معدومة»، رغم «تعاون البلدية مع القوى الفاعلة على الأرض والأجهزة الأمنية»، واتخاذها إجراءات «لتخفيف التوتر وتطمين الناس»، كضبط إقامات غير اللبنانيين وفرض تسجيلها بالأمن العام، وحظر تجوال هؤلاء في ساعات الليل. يبقى الرهان على الدولة لإيقاف «هذا العبث والجنون» عند بعض الأهالي الذين «يرفضون بالمطلق أن يكونوا ضحايا الحقد غير المبرَّر»، بحسب نداء «الرابطة السريانية»، وبحسب «الجمعية الكردية اللبنانية الخيرية» التي أدانت «العنف والعنف المضاد جراء الاعتداء» في 17 من الشهر الجاري، محذرة من مغبة «تحول شجار شخصي الى حالة فوضى شعبية عند كلا الطرفين المحتقنين». الا ان الدولة لا تزال تتعامل مع حوادث كهذه عبر اسلوب «الامتصاص»، او بمعنى ادق، عبر العراضات الامنية فقط، وفي هذا السياق، اعلنت قيادة الجيش - مديرية التوجيه، في بيان أول من امس، أنّ قوى الجيش أوقفت في محلتي برج حمود والدورة، 25 شخصاً من جنسيات مختلفة، لتجولهم من دون أوراق ثبوتيّة، بالإضافة إلى ارتكاب بعضهم مخالفات متنوعة. وتم تسليم الموقوفين إلى المرجع المختص لإجراء اللازم. هل هذا يخفف من «الرعب» الذي أخضع له سكان برج حمود. طبعا لا.