لا تجد قضايا اجتماعية حيوية، كالدفاع عن المساحات العامة، قوى تدافع عنها، على الرغم من الفرصة التي تتيحها لترميم النسيج الاجتماعي الممزق. هذه القضايا التي تشكّل الأساس لمشروعية أي برنامج سياسي تُترك مهماتها لمنظمات غير حكومية، تضطر إلى الاستعانة بالتمويل الأجنبي واستخدام صوت المنظمات الخارجية لإسماع صوتها في الداخل. جمعية «نحن» واحدة من المنظمات التي تحمل قضية «الحيّز العام
فراس أبو مصلح - الاخبار
يتواصل قضم أصحاب السلطة والثروة لما تبقى من مساحات عامة في المدن، وتتواصل سياسة التخريب المتعمد للقليل المتبقي من هذه المساحات ووظائفها الاجتماعية الحيوية، وأهمها التلاقي والتواصل، في مجتمع تمزقه الصراعات وترهقه سياسات الإفقار وتُفاقم أزمته وتوتره موجة المضاربات وسيادة المصالح الريعية على ما عداها. ليس للحيز العام قوى اجتماعية تدافع عنه وتهتم بتأهيله وتطويره غير «المنظمات غير الحكومية»، ولا تجد هذه المنظمات من يموّل نشاطاتها سوى حكومات وهيئات أجنبية، في حين أن الدولة تتخلى عن وظيفتها والقوى السياسية إمّا متورطة وإمّا مستسلمة.
شاطئ الرملة البيضاء، المساحة العامة الوحيدة المتبقية على شاطئ بيروت، والذي كان له عز في زمن مضى، بات مصبّاً للصرف الصحي، تضيف إليه محطات البنزين زيت الآليات المستنفد، ما يرفع تركز البكتيريا في مياهه إلى 55 ألفاً في كل مئة ملليتر، عدا المشتقات البترولية الملوثة. لا رقابة في المكان، ولا إنارة ليلاً، فيتجنب زيارته معظم الناس لأنه غير آمن، كما تحتل الأملاك الخاصة التي يُمنع الوصول إليها جزءاً مهماً من الشاطئ. حديقة صور العامة باتت في جزء منها مكباً للنفايات، وهي مهملة ولا تخضع للرقابة، فيتفادى زيارتها معظم الناس أيضاً. لا ارتباط لمدينة بعلبك بقلعتها ومهرجاناتها، فهي لا تستفيد من ريع السياحة فيها، ولا يستفيد أهاليها من القلعة كحيز عام للتنزه والتلاقي. قدمت جمعية «نحن» التوصيف أعلاه في حفل إطلاقها لـ«حملات ضغط ومناصرة من أجل استعادة وتفعيل المجالات العامة» في بيروت وبعلبك وصور. يشرح محمد أيوب، المدير التنفيذي للجمعية، أن جمعيته أجرت استطلاعاً للرأي بين عامي 2009 و2010 حول أسباب «العنف ورفض الآخر» في المجتمع اللبناني، وتبيّن من إجابات الناس أن أحد أبرز الأسباب ضآلة الأماكن العامة. استعانت الجمعية بفريق من طلاب وأساتذة العمارة والتنظيم المدني في الجامعة اللبنانية، يرأسه محمد الحاج، عميد كلية الفنون الجميلة في الجامعة، وعملت على خرائط لمدينة بيروت حصلت عليها من «الفرنسيين» لإجراء دراسة أو مسح لمدن بيروت وبعلبك وصور، بتمويل من مؤسسة هاينريش بويل الألمانية، كما أجرى محامون دراسة قانونية حول مفهوم المساحات العامة. على مدى عام، تم تجنيد مجموعات في المدن الثلاث المذكورة وتدريبها على فنون التواصل والإعلام وتكوين فرق عمل تجري بحوثاً على عينات من الناس، وتعطي تقييمات «نوعية» لآرائهم، كي تصوغ الجمعية رسائلها إلى الناس بناءً على النتائج. ويضيف أيوب إن مجموعاته أجرت كذلك استطلاعاً وتحليلاً لمراكز التأثير في المجتمع، من إدارات عامة وسياسيين ووجهاء عائلات ومخاتير وغيرهم. على ضوء هذه الجهود، بدأت الجمعية حملاتها بواحدة لإعادة فتح حرج بيروت أمام العموم، وأجرى أيوب مناظرة مع رئيس بلدية بيروت بلال حمد في شباط 2012، وعد فيها الأخير بفتح الحرج؛ وإن لم يحصل ذلك، «سيساعدنا الألمان، وسيسمعون صوتنا من جديد»، يقول أيوب. وعن حملة الرملة البيضاء، أشارت ناشطات من الجمعية إلى خطة حكومية بالشراكة مع الأمم المتحدة لمعالجة تلوث شاطئ الرملة البيضاء، تتضمن ضخ الصرف الصحي من الشاطئ إلى محطة معالجة في خلدة، ومن ثم إلى ما يزيد على ألف متر من الشاطئ في عمق البحر. ودعت الناشطات باسم الجمعية إلى إقرار تصميم مدني للمكان، يحول واجهته البحرية إلى متنزه عام، وينص على إنشاء موقف عام، وتأهيل المكان لاستقبال ذوي الاحتياجات الخاصة، وإنشاء متنزه عام أخضر، وتأهيل الكورنيش، وتشكيل لجنة لإدارة الأنشطة الاجتماعية الثقافية في المكان، ورفع الحواجز البصرية بين الكورنيش والبحر على طول شاطئ بيروت. باسم حملة بعلبك، طالبت ناشطة بإدراج المدينة على اللائحة السياحية أولاً، والعمل على إنشاء علاقة بين قلعة بعلبك وأهالي مدينتها، عبر إلغاء رسوم دخول الأهالي إلى القلعة، لتصبح ملتقىً عاماً، وتوسيع المهرجانات «مكانياً» إلى خارج القلعة، و«زمنياً» لتصبح المهرجانات موسمية، و«ليختلط الأهالي مع السياح ثقافياً واجتماعياً». كما دعت الحملة إلى إدخال «رسائل إنسانية» في برامج المهرجانات، وتخصيص جزء من إيراد القلعة للمدينة. للجمعية برامج أخرى تجدر الإضاءة عليها. فهي عضو في برنامج لـ«التبادل الثقافي الدولي للناشئة» International Youth Cultural Exchange الممول من الدولة الدنماركية، يذهب في إطاره لبنانيون للإقامة في الدنمارك، ويأتي دنماركيون للإقامة في بلادنا لمدة سنة «لفهم الثقافة المحلية»، «كالباحثين في الأنثروبولوجيا الذين يعيشون بين القبائل الأفريقية»، يقول أيوب! وشاركت الجمعية في «بعثة الشرق الأوسط الاستكشافية» Middle East Expedition، التي شارك فيها 20 شاباً من كل من الأردن وسوريا ولبنان والدنمارك، في جولة في المنطقة على متن باص، «للتعارف بين المجموعات، وبين الأخيرة والناس»، يتابع أيوب. أما National Endowment for Democracy، المؤسسة التي تعنى بالتمويل الحكومي الأميركي للجمعيات «المدنية» في البلدان المستهدفة بالديموقراطية الأميركية، فمولت برنامج «الشراكة مع البلديات» في بعلبك ومنطقة الشياح في ضاحية بيروت، حيث نظمت لقاءات عامة بين الناس والبلدية، تناقش إنجازات البلدية وآلية عملها وتواصلها مع الناس، و«الشفافية» في نشر قراراتها وميزانيتها وتقاريرها المالية على شبكة الإنترنت، وتحثها على اتخاذ قراراتها في اجتماعات عامة