ابراهيم الأمين
قرّرت الحكومة الفرنسية الاستجابة لضغوط أميركا وإسرائيل، ومدّدت أسر المناضل جورج إبراهيم عبد الله. لا تشعر فرنسا الدولة، أو فرنسا السلطة، أو فرنسا الحرّة، بأنها ترتكب أيّ ذنب. لا يظهر الفرنسيون أيّ إشارات بأن ما يقومون به يمثّل جرماً كبيراً. أصلاً، لا يشعر هؤلاء بأن هناك مَن يقدر على جعلهم يدفعون ثمن هذه الجريمة المستمرة منذ 28 سنة.
التسويف المتعمّد لم يعد هذه المرة يستهدف استمرار عملية الخطف. الفرنسيون يضيفون الى أدوارهم القذرة، المتزايدة هذه الأيام، دوراً إضافياً. هم يريدون أن يتم الإفراج بطريقة سرية. يريدون لنا أن نمسح وسخ فرنسا في العتمة، ويريدون منا أن يُستقبل الأسير المحرر في السر والعتمة أيضاً. يريدون لنا أن نحمل الرجل تحت جنح الظلام، في لحظة غير معلنة، وأن نقنعه بأن يختلي بعائلته ويصمت. يريدون له ولعائلته ورفاقه ألا يحتفلوا بانتصار إرادته على السجان الإرهابي. أن لا يستقبل مهنئين أو فرحين بفك أسره. ويريدون للدولة اللبنانية، على تفاهتها، أن تضمن حصول الأمر بطريقة لا تحتمل أي مظاهر فرح، أو ترحيب.
أكثر من ذلك، يريد الفرنسيون أن تتوقف حملات التضامن. وأن يفك الاعتصام من أمام السفارة في بيروت، وأن يتم إلغاء كل الأنشطة التي تنظّم في لبنان أو خارجه. يريدون أن يتوجه اللبنانيون إليهم بالشكر لأنهم قرروا الإفراج عن جورج. يريدون من أهل جورج أن يدبّجوا رسائل التحية والامتنان لإرهابيّي السلطتين القضائية والتنفيذية في فرنسا، لأنهما قبلا بلحظة تخلّ، أثمرت إخلاء السبيل. يريدون لرفاق جورج أن يصمتوا وأن يعربوا من خلال صمتهم عن الندم الذي أصرّوا طوال 28 سنة على انتزاعه من جورج. هم يريدون منا أن نشبههم، أن نقول إننا إرهابيون مثلهم، بلا أخلاق وبلا مشاعر إنسانية.
هم يعرفون أن ثمن الاحتفاظ بجورج رهينة، صار أكبر بكثير من ثمن إطلاقه. ليس في تجارب التاريخ من يصفح عن سفاح أو قاتل مأجور. ثم تجارب تؤجّل العقاب الى حين، وهي حال فرنسا وكل من تورط فيها في هذه الجريمة، لأن هؤلاء سيدفعون الثمن يوماً ما، ولو بعد حين. ولكنهم يعرفون، أيضاً، أن استمرار عملية الخطف سيفتح الأبواب دفعة واحدة أمام جحيم سبق لهم أن جرّبوه في كل منطقة قصدوا استعمارها وإذلال أهلها. واستخباراتهم في لبنان والمنطقة تقول لهم إن الأخطار الناجمة عن استمرار اعتقال جورج تتعاظم يوماً بعد يوم، وإن الأمر لا يتعلق بحفنة من رجال غاضبين، أو عائلة مقهورة. ووصل الأمر بأحد الفاعلين في هذه الاستخبارات، قبل مدة غير بعيدة، الى لفت من يهمه الأمر في باريس، بأنه شاهد بنفسه جيلاً كان يمكن أن يكونوا من عمر أولاد جورج لو أتيح له الزواج والإنجاب. جيل بينهم من قصد فرنسا للتعلم وغير ذلك، جيل غاضب الى حدود الاستعداد للقيام بأعمال ستتسبب بمشكلات كبرى لفرنسا داخل أراضيها وخارجها.
لكن وجب طرح سؤال آخر على أركان الدولة عندنا. صحيح أن رفيق الحريري رفض طوال وجوده في السلطة أو خارجها أن يبحث الأمر مع صديقه جاك شيراك أو غيره. وصحيح أن رؤساء جمهوريات وحكومات تعاقبوا على السلطة في لبنان من تاريخ اعتقال المناضل ولم يجرأوا على إثارة مصيره. ذلك لم يكن خوفاً من فرنسا. بل في غالب الأحيان، خوفاً من جورج نفسه، ورفضاً لأفكاره، واعتباره إرهابياً وجبت إدانته. ومع ذلك، فمن الإنصاف الإشارة الى أن الرئيس نجيب ميقاتي تصرف بواقعية مع الأمر، وحكومته تصرفت بواقعية مقبولة، حيث انتبهت باريس، أنه ــــ وللمرة الأولى ــــ هناك جهات رسمية في لبنان تسأل عن مواطنها المخطوف في السجون الفرنسية.
ومع ذلك، تظهر بعض المؤشرات، استعداد الجهات الرسمية عندنا لـ«تفهم» مطالب الحكومة الفرنسية بالتعامل مع إطلاق جورج ونقله الى لبنان، وكأنها عملية استرداد لمطلوب أمام القضاء اللبناني. وهناك همس في بعض الأروقة الرسمية، حول «ضرورة» الأخذ في الاعتبار الملاحظات الفرنسية والأميركية الداعية الى عدم «استفزاز العالم الحر». وهذا الهمس يقود ضمناً الى تسويات بشعة، كعمل يدبّر في ليل، كي لا يصار الى الاحتفال بحرية جورج، أو أقله لعدم مشاركة السلطات الرسمية في تنظيم هذا الاحتفال أو حضوره.
قد تخرج بعض الأصوات الداعية الى التعامل بواقعية مع هذه الأمور. ربما يوجد من بين أفراد عائلة جورج، أو أصدقائه، أو أنصار قضيته، من يعتقد بأنه لا لزوم لتكبير الأمر، وأنه لا لزوم أصلاً لمشاركة الدولة في استقبال جورج أو الاحتفال به. لكن واقع الإرهاب الذي تقوم به فرنسا يوجب العكس اليوم.
ليس مبالغة القول إن طريقة الإفراج عن جورج، وشكل استقباله في بيروت، بمشاركة الدولة والمواطنين، صارت تمثل في العمق ما يمثله أصل حدث الإفراج. جورج كان من زمن طويل ولا يزال حراً، لكن رمزية الاحتفال بحريته المعلنة، هدفها بسيط: علّ في حريته عدوى تصيب المستسلمين طوعاً لسلوك ميت يتوهم أنه يحب الحياة!
الاثنين ٢٨ كانون الثاني ٢٠١٣