قرار تصحيح الأجور الأخير لا يزيد الكلفة إلّا 10% فقط لا غير
اختُرع «بدل النقل» في عام 1995 للهروب من تصحيح الأجور بنسبة ارتفاع غلاء المعيشة ومراكمة المزيد من الأرباح على حساب العمّال والمستخدمين. وقد أقرّ وزير الاقتصاد والتجارة، نقولا نحّاس، في جلسة سابقة لمجلس الوزراء بأنه شارك في تصميم هذا البدل ليكون خارج الأجر، ما يسمح بعدم تسديده لأصحابه... بمعنى آخر، كان بدل النقل: خديعة
محمد زبيب
تصحيح الأجور بالصيغة التي قررها مجلس الوزراء لا يزيد الكلفة الإجمالية على كل المؤسسات إلا بنسبة 10%، وفقاً للدراسات التي استند إليها وزير العمل شربل نحّاس، لطرح مشروعه وتبريره... والكلفة هنا بمفهومها الواسع، أي زيادة الأجر وضمنه ما كان يُسمّى بدل النقل والاشتراكات المختلفة وكلفة تكوين المؤونات لتعويضات نهاية الخدمة.
المفارقة لا تكمن فقط في أن زيادة الكلفة بهذه النسبة «المعقولة» لا تستدعي كل هذا الانفعال الذي يطبع سلوك من يدّعون تمثيل مصالح مؤسسات الإنتاج، بل تكمن أيضاً في أن هؤلاء الذين يحاولون اليوم إيهام الناس بأنهم على وشك تحمّل خسارة وقف أعمالهم احتجاجاً على «القرار الجائر»، سبق أن تبنّوا وأيّدوا واقترحوا قرارين سابقين يرتّبان زيادة في الكلفة بنسبة 14.5% و14.7% على التوالي (راجع تقرير «الأخبار» تحت عنوان «تصحيح الأجور: ماذا خسر الأجراء وماذا ربح أصحاب العمل؟» www.al-akhbar.com/node/27670)! ووقّعوا أثناء انعقاد الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء اتفاقاً مع رئيس الاتحاد العمالي العام غسان غصن والأمين العام سعد الدين حميدي صقر يرفع الحدّ الأدنى للأجور إلى 675 ألف ليرة، مع وعد بزيادة بدل النقل لاحقاً بمرسوم استثنائي مستقل ليبلغ نحو 236 ألف ليرة شهرياً، بمعنى أنهم وافقوا على رفع الحدّ الأدنى الفعلي للأجور إلى 911 ألف ليرة، أي أكثر بنحو 43 ألف ليرة من الحدّ الأدنى الذي قرره مجلس الوزراء والبالغ 868 ألف ليرة، أو على الأقل وافقوا على زيادته إلى 863 ألف ليرة (أي أقل بـ 5 آلاف ليرة فقط عمّا قرره مجلس الوزراء) إن كان وعدهم بزيادة بدل النقل زائفاً، باعتبار أن هذا البدل يبلغ اليوم نحو 188 ألف ليرة!لماذا هذا الانفعال إذاً؟ وما الذي يعترضون عليه في قرار مجلس الوزراء الأخير؟في الواقع هم «مهتاجون» اليوم بسبب تجرّؤ «نصف» مجلس الوزراء على تحدّي إرادتهم واتخاذ قرار ينطوي على تصحيح لـ«واحد» من الأوضاع الشاذة في مجال «الأجور»، بمعنى أنهم يعترضون على خطوة إلغاء «بدعة» بدل النقل وإعادته إلى نصابه الطبيعي كجزء «عضوي» من الأجر، وليس الاعتراض على التصحيح كنسبة أو كقيمة، فهم منذ البداية لم يمانعوا زيادة الأجور بين 200 ألف و300 ألف ليرة، وإن كان «بازارهم المفتوح» يريد الاستمرار في مخالفة القانون والتحايل على الأُجراء واستعمال الأساليب الملتوية لسلبهم المزيد من الحقوق. وانطلاقاً من هذه «الواقعة» الثابتة غير القابلة للإنكار في ضوء تواقيعهم على الاتفاق الأخير المذكور، لا يعود مفهوماً أبداً «الصراخ» الجاري عن خراب الاقتصاد ودماره وصرف العمّال وإقفال المصانع والمؤسسات وتسليم المفاتيح لشربل نحّاس، إلا إذا كان «الفجور» يُعدّ مبرراً كافياً.لا يجد الخبراء الاقتصاديون الجدّيون (انظر تقرير حسن شقراني تحت عنوان «صدمة إيجابيّة يستطيع الاقتصاد التكيّف معها» http://www.al-akhbar.com/node/28304) أي مؤشّر يستدعي حملة «التخويف» التي تمارسها جماعة «البزنس». حتى مروان إسكندر، المحسوب عليهم، رأى أن القرار الأخير «حكيم»، و«هو في الاتجاه الصحيح». وبرأيه، يمكن «الاقتصاد أن يستوعب هذا التصحيح»، مذكّراً بـ«أن المصانع تشكو ارتفاع كلفة الكهرباء والطاقة والأراضي... وما حفّز أعمال الصناعيين خلال الفترة الأخيرة هو القروض المدعومة من مصرف لبنان»، أي إنهم مدعومون من الدولة، كالعادة، وبالتالي فإن تصحيح الأجور ووضعها القانوني ليس هو مصدر العلّة أبداً.فماذا يريدون هؤلاء إذا كانت الوقائع تدحض كل خطابهم «الأرعن»؟في الشكل يُلاحظ أن «التصعيد» يمارسه طرفان: المرابون والريعيون والفاسدون الذين يتحدّثون باسم المنتجين، وهم أصل البلاء الذي يصيب من يدّعون تمثيلهم... وأزلام بعض القوى السياسية ـــــ المذهبية ـــــ الطبقية التي راكم «عرّابوها» ثروات طائلة من جرّاء السطو على الدولة وحقوق المواطنين وأملاكهم وأموالهم العامّة والخاصّة من الأملاك العامّة البحرية والنهرية إلى «سوليدير»، مروراً بـ«تيكو تاك» التي أُحيط رئيس مجلس النوّاب علماً منذ عام 2010 بسرقة 5 مليارات ليرة من أموال الخزينة العامّة عبرها، من دون أن يحرّك ساكناً حتى الآن!أمّا في المضمون، فهم يصدّون أي محاولة «إصلاحية»، مهما كانت بسيطة، إذا كانت تمسّ مصالحهم «غير المشروعة» التي ترسّخت في العقود الماضية، أو إذا كانت تريد أن تسترد منهم بعض «المكاسب» التي قنصوها في ظل التدمير المنهجي للدولة وتلهّي المواطنين بلملمة جراحهم بعد الحرب العبثية... فما يريدون إسقاطه اليوم هو «مجرد» قرار «بسيط» يرمي إلى تطبيق القانون وإجبار أصحاب العمل على تسديد الأجور كاملة من دون سرقة أي جزء أو عنصر منها، ولا سيما بدل النقل الذي مثّل نحو 29% من الحد الأدنى للأجور الفعلي قبل قرار مجلس الوزراء الأخير... فأصحاب العمل الملتزمين القوانين لا يُسمع صوتهم الآن، لكن ترتفع أصوات المخالفين منهم الذين يصرّون على اعتبار بدل النقل مسألة «خيار»، أي يمكن تسديده للأجير أو يمكن «سلبه» إياه، وهؤلاء يرون أنهم اكتسبوا هذا «الحق» منذ عام 1995، عندما قررت الحكومة التي تمثّلهم سلب العمّال حقوقهم والاستعاضة عن تصحيح أجورهم بكامل نسبة ارتفاع الأسعار (التي كانت ترتفع حينها بوتيرة مخيفة) بابتداع بدل «مؤقّت» خارج الأجر، سمّي بدل النقل، فلا يُحتسَب كجزء من الأجر ولا يُصرَّح عنه لصندوق الضمان الاجتماعي، ولا تُسدَّد الاشتراكات المستحقة عليه ولا يُحتسَب بالتالي في تعويضات نهاية الخدمة... هذا «التحايل» أدّى إلى امتناع معظم أصحاب العمل عن تسديده للأجراء، نظاميين كانوا أو غير نظاميين، وباتوا يتقنون اللعبة جيّداً، فكلما اشتدت الضغوط لتصحيح الأجور كانوا يقبلون على زيادة بدل النقل بدلاً من الأجور، فارتفع هذا البدل من ألفي ليرة في عام 1995 إلى 8 آلاف ليرة قبل القرار الأخير، أي بأربعة أضعاف، فيما الأجور نفسها بقيت مجمّدة منذ عام 1996 حتى عام 2008 عندما أقرّت حكومتهم زيادة «مكرمة» بقيمة 200 ألف ليرة، أي ما يعادل نسبة تقلّ عن 16% على الأجر الوسطي حينها، ثم جُمِّدت الأجور حتى الآن، علماً بأن الناتج المحلّي الاسمي (الذي يتكوّن من الأرباح والأجور تحديداً) ارتفع بنسبة 75% بين عامي 2007 و2010، أي أن حصّة الأرباح من الناتج ارتفعت كثيراً، فيما حصّة الأجور تراجعت دراماتيكياً لتبلغ نحو 22% بالمقارنة مع 70% وما فوق في الدول الأخرى التي يحبّ «الغاضبون» اليوم التشبّه بها باعتبارها دولاً رأسمالية تتبنى «الاقتصاد الحر» وتعشق «التجارة الحرّة» وتعبد «الاستثمار الخاص» وتنخرط بـ«العولمة».لقد طرح شربل نحّاس مشروعه على مجلس الوزراء بهدف إعادة الأمور إلى نصابها، فلا يجوز أن يبقى هناك «أجران» في لبنان: واحد فعلي مرتفع لا يلتزمه إلا القلّة، وآخر اسمي منخفض تطبّقه الأكثرية، تماماً كحكاية الدفترين: واحد لصاحب العمل يدوّن فيه أرباحه الطائلة، وآخر مزوّر يدوّن فيه خسائر مزعومة لتقديمه إلى الدوائر الضريبية ليسرق الدولة وأموال الناس. فجنّ جنونهم، إلا أنهم في حفلة الجنون نسوا أن نحّاس بمشروعه يساير أوضاع الاقتصاد ومؤسساته الإنتاجية تحديداً؛ إذ إن اعتبار بدل النقل ليس جزءاً من الأجر، وبالتالي اعتباره غير قانوني، كما يقول مجلس شورى الدولة وأصحاب العمل، يستدعي العودة إلى عام 1996 لتصحيح الأجور «تراكمياً» بنسبة غلاء المعيشة المسجّلة كل سنة، وهذا يعني تصحيحاً بنسبة تفوق 100%، وبالتالي يمكن ساعتئذ إلغاء بدل النقل غير القانوني وتطبيق القانون الذي ينص صراحة على إلزامية مراجعة الأجور وتصحيحها مرّة واحدة على الأقل كل سنة... فهل يرضون بذلك؟حبّذا لو أن محاضر جلسات مجلس الوزراء علنية لكي يتسنّى للجميع الاطلاع على مبررات وزراء «البزنس» لرفض إصلاح وضعية الأجر في الجلسات «الماراتونية» التي ناقشت ملف تصحيح الأجور منذ تشرين الأول الماضي، فهؤلاء يرون أن «القانون» لا وجود له في النظام الرأسمالي إلا لخدمة المستثمرين وتعظيم أرباحهم (وزير الاقتصاد والتجارة نقولا نحّاس)، وأن مخالفة «القانون» هي حق مكتسب ما دامت الأعراف السارية منذ عقدين لا تقيم له أي اعتبار في السلوك والممارسة (وزير الصناعة فريج صابونجيان)، وبالتالي إذا كان «القانون» يجيز للحكومة أن تتدخّل في الأجور، يجب إلغاء هذا القانون تحقيقاً لنظريات «الاقتصاد الحرّ» التي لا تجيز مثل هذا التدخّل «أبداً» و«إطلاقاً» إلّا في مجال تعيين الحدّ الأدنى للأجور (وزير السياحة فادي عبّود)، وأن بدل النقل صُمم خصيصاً في عام 1995 لكي لا يكون تسديده ملزماً ويمكن التهرّب منه (الوزير نقولا نحّاس أيضاً)، وأن معظم الأُجراء في القطاع الخاص لا يُصرَّح عنهم، وبالتالي لا يتقاضون بدل النقل، ولا يجوز أن تعمد الحكومة إلى الإضرار بمصالح أصحاب العمل الذين يوظّفونهم عبر إلزامهم تسديد هذا البدل؛ لأن ضم بدل النقل إلى الأجر سيرفع القيمة الاسمية للأجر، وبالتالي سيعرّض أصحاب العمل لضغوط من يعملون على تشغيلهم لزيادة أجورهم على حساب الأرباح التي تُعد الحافز الأساسي للاستثمار (وزير الدولة نقولا فتوش)، وأن إعلان مبلغ «مرتفع» للحدّ الأدنى للأجور الفعلي يُضعف «جاذبية» لبنان أمام «المستثمرين»؛ إذ إن الأجور المنخفضة هي عامل الجذب الرئيسي ولا يجوز للحكومة أن تخرّب هذه «الجنّة»؛ لأن المستثمرين سيفضّلون ساعتئذ سوريا ومصر؛ لأنهما «أرخص» (الوزير نقولا نحاس أيضاً وأيضاً)، وإن مستويات الأجور في لبنان يجب أن تبقى خاضعة لـ«العرض والطلب« في السوق؛ إذ إن أي صاحب عمل باستطاعته أن «يستقدم» عمّالاً أجانب يقبلون بأجور لا تزيد على 200 دولار شهرياً ويعملون لساعات أطول من اللبنانيين (الوزير نقولا فتوش مجدداً)، وإن أصحاب العمل يعملون فقط ليدفعوا الضرائب للدولة ويشغّلوا العمّال، فهم لا يحققون الأرباح بسبب الضرائب والأجور (الوزير فريج صابونجيان أيضاً وأيضاً).هذا كلامهم بأفواههم... فهل من يقرأ ليجبرهم على الصمت إلى الأبد؟
60 في المئة
دخل الفرد بالأسعار الثابتة ما زال اليوم أدنى بنحو 60% من مستواه سنة 1973، وتبين المؤشّرات أن انخفاض قيمة الأجر الوسطي أدّى إلى انخفاض دراماتيكي للقدرات الشرائية لأكثرية اللبنانيين المقيمين، وهو ما شكّل عامل طرد للعمالة الماهرة إلى خارج لبنان.
وقاحة لا توصف
ردد ممثلون عن هيئات أصحاب العمل شاركوا في مناقشات لجنة المؤشّر، بوقاحة لا توصف، أن نصف الأُجراء لديهم غير مصرّح عنهم للضمان ونصف المصرّح عنهم لا يُصرَّح إلا عن نصف أجورهم، وبالتالي اعتبروا أي «إغراء» أو «دعم» يتعلّق باشتراكات الضمان «هدية من كيسنا... في حين أن بدل النقل هو هدية من كيس العمّال». لذلك، طالبوا بالاستمرار في غض الطرف عن بدل النقل وإبقاء الحد الأدنى الاسمي منخفضاً لكي يحافظوا على قدرتهم باستخدام عمالة رخيصة وتحقيق أرباح كبيرة.