تصحيح الأجور: ماذا خسر الأجراء وماذا ربح أصحاب العمل؟

نحّاس يتهم الحكومة بالانحياز الكامل ضد مصالح العمّال غير النظاميين

قضية تصحيح الأجور لم تنته فصولاً بعد، فالاتصالات متواصلة لإيجاد مخرج جديد للحكومة، قد يفضي الى التراجع للمرّة الثانية عن قرارها، فيما تستعد هيئة التنسيق النقابية لتنفيذ اضرابها غداً والتظاهر عند الحادية عشرة من قبل الظهر من السوديكو نحو السرايا الحكومية بمشاركة واسعة من قوى ومجموعات سياسية ونقابية وشبابية

تنفّذ هيئة التنسيق النقابية اضراباً غداً الخميس بهدف اسقاط قرار مجلس الوزراء الاخير المتعلّق بتصحيح الاجور، فيما دعت احزاب ونقابات ومجموعات شبابية الى المشاركة الكثيفة في التظاهرة التي دعت اليها الهيئة عند الحادية عشرة من قبل ظهر اليوم نفسه من تقاطع بشارة الخوري - السوديكو الى السرايا الحكومية للمطالبة بتصحيح عادل للاجور وإقرار الضمان الصحي الشامل لجميع اللبنانيين المقيمين وفرض الضرائب على الارباح العقارية وارباح الفوائد وإيجاد فرص العمل للشباب من اجل الحدّ من الهجرة والبطالة.

 

في هذا الوقت، تواصلت الاتصالات السياسية الرامية الى اعادة طرح مشروع وزير العمل شربل نحّاس للنقاش على طاولة مجلس الوزراء بعد تجاهله في المرتين السابقتين خلافاً للأصول الدستورية، ويتولّى حزب الله هذه الاتصالات، وقد طرح وزير الزراعة حسين الحاج حسن في جلسة مجلس الوزراء المنعقدة مساء الاثنين الماضي ضرورة الاستجابة سريعاً تحت عنوان «التراجع عن الخطأ فضيلة». في حين أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي مدعوماً من رئيس مجلس النواب نبيه بري باشر اتصالات موازية بهدف إمرار القرار الأخير بعد استكماله بإجراءات «مكمّلة» تستهدف زيادة بدل النقل «المؤقّت» بقيمة 2000 ليرة عن كل يوم عمل فعلي، وإقرار دعم المازوت، وتشكيل المجلس الاقتصادي الاجتماعي ليكون المكان الذي يناقش فيه مشروع نحّاس، بحسب ما تتداوله الاوساط النقابية والهيئات الاقتصادية... الا أن الرئيس ميقاتي أبلغ بأن هذه الاجراءات ليست كافية ولا مفر من اعادة طرح الملف برمته امام مجلس الوزراء، ولا سيما في ضوء التوقّعات بأن يعمد مجلس شورى الدولة الى رفض الموافقة مجدداً على مشروع المرسوم الذي احاله وزير العمل اليه لأخذ رأيه بمدى قانونيته.وقد وضع الوزير شربل نحّاس مذكّرة تتضمن ملاحظاته على قرار مجلس الوزراء الاخير الذي قضى بزيادة الحد الادنى للاجور الى 600 الف ليرة، وزيادة غلاء المعيشة بنسبة 30% على الاجر الشهري بين 500 الف ليرة ومليون ليرة، على ان لا تقل الزيادة عن 150 الف ليرة ولا تزيد على 200 الف ليرة، وبنسبة 20% على الاجر الشهري الذي يفوق المليون ليرة على أن لا تتعدى الزيادة 275 الف ليرة. وزيادة الحد الاقصى للمنح المدرسية الى مليون و500 الف ليرة... وتضمّنت هذه المذكرة مقارنة توضح مكاسب الاجراء والكلفة على اصحاب العمل بين قرار الحكومة الاخير وقرارها السابق الذي قضى بزيادة الحدّ الادنى للأجور الى 700 الف ليرة وزيادة 200 الف ليرة لفئة الاجور دون مليون ليرة و300 الف ليرة لفئة الاجور بين مليون ومليون و800 الف ليرة وزيادة بدل النقل الى 10 آلاف ليرة يومياً وزيادة سقف المنحة التعليمية الى مليون و500 الف ليرة. كذلك شملت المقارنة مشروعه الذي يتضمن الآتي:- رفع الحد الادنى الرسمي للأجور الى 861 الف ليرة بعد ضم بدل النقل اليه (يضاف الى ذلك دعم من الدولة بقيمة 77 الف ليرة ليرتفع الحد الادنى الفعلي الى 938 الف ليرة).- زيادة بدل النقل الى 236 الف ليرة شهرياً وضمّه الى الأجر قبل تصحيحه بنسبة 17% على شطر مليون ليرة من الاجر. على ان تحتسب الفوائد التي يراكمها صندوق الضمان على توظيفاته في تكوين المؤونات لدى المؤسسات لتغطية فروقات تعويضات نهاية الخدمة، ما يحرر أموالاً خاصة كبيرة لهذه المؤسسات.- تقديم دعم من الدولة للأجور بنسبة 9% على شطر مليون و500 الف ليرة من الاجر، وذلك عبر تسديد الخزينة العامّة الاشتراكات لصندوق المرض والامومة لتتحول قيمة هذه الاشتراكات الى زيادة فعلية على الاجر، ما يزيد مكاسب الاجراء ويخفف الكلفة على اصحاب العمل، على أن يتحوّل هذا الدعم الى زيادة فعلية على الاجر بعد إلغاء الاشتراكات وتطبيق التغطية الصحّية الشاملة لجميع اللبنانيين المقيمين المموّلة من ضرائب على الارباح العقارية وأرباح الفوائد.- إلغاء صفة المؤقت للمنحة التعليمية ووضعها في اطارها القانوني في فرع التعويضات العائلية والتعليمية في صندوق الضمان بعد رفع الاشتراكات من 6% الى 9% وتحديد قيمة المنحة بنحو 40 الف ليرة شهرياً عن كل ولد حتى سقف 160 الف ليرة شهرياً، اي ان المنحة سترتفع الى مليون و920 الف ليرة شهرياً يتقاضاها الاجير مع اجره الشهري وفق الآلية المتبعة لتسديد التعويضات العائلية.- شمول جميع اللبنانيين المقيمين بالضمان الصحي لتعميم المكاسب من تصحيح الاجور على نحو ثلثي القوى العاملة غير المعنية بتصحيح الاجور النقدية، وبالتالي إلغاء الاشتراكات التي تُعدّ بمثابة اقتطاع ضريبي على العمل، ما يحفّز التشغيل في الوظائف النظامية.- دعم فرص العمل للشباب عبر تسديد الدولة للاشتراكات المستحقة على كل موظّف يعمل لأول مرّة، وذلك عبر المؤسسة الوطنية للاستخدام وبصيغ تعاقدية مع المؤسسات تمتد على 5 سنوات وبشروط لا تسمح باستبدال عمالة سابقة بأخرى جديدة.- دعم الانتاج من خلال تغذية المناطق الصناعية والمؤسسات الصناعية الكبرى بالتيار الكهربائي بنحو تفضيلي.وتبيّن الرسوم البيانية المرفقة مع هذه المذكّرة المكاسب التي كان يمكن أن يحصل الأجراء والأكلاف التي كانت ستترتب على اصحاب العمل بموجب قراري الحكومة السابق والحالي ومشروع نحّاس نفسه، اذ تبلغ الكلفة على اصحاب العمل في مشروع نحّاس نحو 9.3% فقط بالمقارنة مع 14.5% في قرار الحكومة القديم و14.7% في قرار الحكومة الحالي، في حين ان الاجراء كانت مكاسبهم ستبلغ 21.8% في مشروع نحّاس بالمقارنة مع 14.3% في قرار الحكومة السابق و13.9% في قرار الحكومة الحالي... وهذه المقارنة كافية لإسقاط كل الحجج التي تلطّى وراءها جميع من رفضوا مشروع نحّاس من داخل مجلس الوزراء ومن خارجه، اذ إن المشروع يرتّب كلفة اقل على اصحاب العمل ومكاسب اكبر للأجراء (وعموم اللبنانيين) الا أنه سيساهم في ادخال تعديلات بنيوية على النمط الاقتصادي القائم عبر تمويل هذا المشروع من خلال نقل نحو 3500 مليار ليرة من الثروة الريعية وتوزيعها على الجميع من خلال دعم الاجور والتغطية الصحية للجميع وإطلاق برنامج استثمارات عامّة لزيادة الانتاجية والتنافسية في الاقتصاد.يدعم نحّاس مقاربته بأن اللبنانيين لم يعودوا قادرين على البقاء رهائن لمديونية عامّة هائلة تقارب الـ70 مليار دولار، كما لم يعودوا قادرين على القبول بأولوية خدمة الدين العام التي تحوّلت الى اداة توزيع رئيسة ساهمت في تركيز الثروة لدى قلّة قليلة جداً، اذ إن 3% فقط من الحسابات المصرفية تحتوي على اكثر من 65% من الودائع (0.8% من هذه الحسابات تحتوي على 46% من الودائع) في حين ان 70% من الحسابات المصرفية تحتوي على 2.6% فقط من الودائع. ازاء ذلك، من الطبيعي أن تتبلور مصالح اجتماعية - سياسية، تضغط بقوّة اليوم نحو إحداث تغييرات جوهرية، بعدما استُنفدت آليات التوزيع السابقة، وأثبت النمط الاقتصادي السائد عجزه عن تحقيق الحد الادنى من شروط الاستدامة، وفشله في تحقيق الحد الادنى أيضاً من ضرورات تقسيم المغارم والمغانم، بما يحفظ الوحدة الوطنية والسلم الاهلي ويؤمّن مقتضيات التنمية.وبحسب المذكّرة التي أعدّها نحّاس، ووزّعها على عدد كبير من المعنيين بهدف تحريضهم على رفض قرار مجلس الوزراء الإخير، فإن هناك اسباباً كثيرة تدفع الى اسقاط هذا القرار، فهو لا يستجيب للمطالب النقابية، ويمثّل عودة عن الوعود التي اعطيت للأجراء بقرار مجلس الوزراء الاول، اذ ألغى زيادة بدل النقل الى 10 آلاف ليرة، وحدد الحد الادنى للأجور بقيمة تقلّ 100 الف ليرة عن القرار السابق، فيما اعداد كبيرة من الاجراء اصبحت اجورهم بعد التصحيح ادنى مما كانت قد وصلت اليه في القرار السابق.وأدّى القرار المتخذ خلافاً للأصول الى حدين ادنيين فعليين يقيمان تمييزاً غير قانوني بين الاجراء: حد ادنى بقيمة 600 الف ليرة لمن يدخل الى العمل بعد صدور المرسوم. وآخر بقيمة 650 الف ليرة لمن دخل الى العمل قبل صدور المرسوم، وهذا الأمر قد يدفع ببعض اصحاب العمل الى اعتماد الحد الادنى الاقل بمجرد قيامهم بإبلاغ العاملين لديهم بصرفهم من العمل واعادة تشغيلهم في اليوم التالي بدلاً من زيادة اجورهم بقيمة 50 الف ليرة. وحذّر نحّاس من ان هذا القرار قد يكون مقصوداً بهدف خلق فارق في القدرة التفاوضية بين من لديه عمل ومن يسعى الى العمل، كذلك حذّر من أن الغاية من تحديد حد ادنى للأجور «وهمي» (اي تحديد مبلغ 600 الف من دون ضم بدل النقل اليه) هي لزيادة قدرة اصحاب العمل التفاوضية في المؤسسات غير النظامية لمواجهة مطالبات العمل بالحد الأدنى الفعلي (وقد أدلى بهذه الحجة فعلياً عدد من الوزراء)، وهذا مرفوض مرتين: اولاً لأنه مبنيّ على التغاضي عن حالات تخالف القانون صراحة وتستدعي الملاحقة، وثانياً لأنه تدخّل منحاز ضمن هذه الحالات ضد مصالح العاملين غير النظاميين. فتكون الدولة بذلك تتحالف مع اصحاب عمل يخرقون القانون اصلاً ضد أجرائهم الحاليين او المحتملين لظلمهم مرتين، مرة بالتغاضي عن تسجيلهم في الضمان الاجتماعي، ومرة ثانية بتسهيل خفض اجرهم. وخلص الى أن النتيجة في كل الاحوال هي تعطيل لمفهوم الحد الادنى للأجور وتعطيل للغاية التي احدث من اجلها. ذلك أن اعتبار الحد الادنى شعاراً تسويقياً لجلب المستثمرين (وقد ادلى بهذه الحجة فعلياً عدد من الوزراء أيضاً) ينزع عن هذا الرقم صفة الحد الادنى ويسمح بالتالي بتعيين الحد الادنى عند اي رقم ترويجي، وكان من الاجدى لأصحاب هذا الرأي «العجيب» ابقاء الحد الادنى عند مستواه السابق لا بل خفضه اذا استطاعوا.وفي مجال زيادة غلاء المعيشة، اشار نحّاس في ملاحظاته الى أن القرار الأخير اصرّ على مقاربة الاجور بتقسيم الاجراء الى فئات بحسب قيمة اجرهم بدل تقسيم الاجر الى شطور، وهو إمعان في المخالفة الدستورية التي اشار اليها مجلس الشورى في رأيه السابق. وقد اتت الزيادة في القرار بشكل مبالغ مقطوعة بحسب فئات الاجراء، وإن جرى تمويه هذه المبالغ من خلال ذكر نسبة مئوية لا تطبق الا على حالات معينة، اذ إن تحديد نسبة الزيادة لفئة الاجور دون المليون ليرة بـ30% لن تطاول سوى الاجور بين 500 الف ل.ل. و666 الف ل.ل. لتصبح بعد ذلك زيادة مقطوعة بقيمة 200 الف ليرة، وهذا ينطبق ايضاً على فئة الاجور فوق المليون ليرة حيث لن تطاول زيادة الـ20% سوى الاجور بين مليون ليرة ومليون و375 الف ليرة، لتصبح بعد ذلك زيادة مقطوعة بقيمة 275 الف ليرة، وكان من الممكن في سياق العمليات التسويقية وضع نسبة زيادة بقيمة 100% مثلاً بدلاً من 20% ما دام السقف هو الذي يحدد الزيادة فعلياً. والمفارقة ان فئة اصحاب الاجور التي تصيبها النسب المئوية ولا تبلغ زيادتها المبلغ المقطوع هي نفسها التي كانت إصابتها الافدح نسبياً بنتيجة عدم رفع «بدل النقل» وعدم تصحيح الاجور بنحو يستجيب للقرار السابق.وقال نحّاس ان الاعتبار القانوني يقضي باعتبار هذه بدل النقل جزءاً من الأجر، ونزع صفة المؤقّت عنه المستمرة منذ 18 عاماً، فهذا البدل وُضع بهدف واضح هو تحاشي زيادة الاجور بالنسب المتراكمة لارتفاع الاسعار، والافساح في المجال امام اصحاب العمل للتهرّب من تسديده للاجراء، وتمكينهم من عدم التصريح عنها للضمان الاجتماعي، وكل ذلك بحجّة انها ترتّب كلفة على المؤسسات في تكوين مؤونات تعويضات نهاية الخدمة، فبدلاً من ان يعالج القرار الاخير كل ذلك، عاد لتكريس التشوّهات.ويشرح الوزير نحّاس الاعتبارات الاقتصادية لمعارضته القرار واصراره على مناقشة مشروعه، فقد زاد الناتج المحلي الاسمي بنسبة 75% بين 2006 و2010 دون ان يترافق ذلك مع زيادة على الاجور، ما عدا الزيادة المقطوعة عام 2008 التي لا تتجاوز نسبتها 16%، ودون ان يترافق مع زيادة محسوسة في ارباح الغالبية العظمى من المؤسسات. ما انعكس ذلك تدنياً في حصتي الاجور والقطاعات المنتجة من الاقتصاد معاً. فمن الواضح أن هناك معطيات اقتصادية غير مؤشر ارتفاع الاسعار وجب ان تؤخذ بعين الاعتبار عند دراسة سياسة الاجور والسياسات الاجتماعية للدولة. من المفترض للحفاظ على التوازن الاقتصادي والاجتماعي أن تحافظ كتلة الاجور على حصة مستقرة من الناتج. وهذا يعني ان ترفع ليس فقط بنتيجة ارتفاع الاسعار بل ايضاً بمواكبة النمو الفعلي للنشاط الاقتصادي.(الأخبار)

الاربعاء ١٤ كانون الأول ٢٠١١
آخر تعديل على Thursday, 15 December 2011 07:25

الأكثر قراءة