
أحمد محس
قلائل هم سائقو سيارات الأجرة الذين لا يتحدثون مع ركابهم. أحدهم، الذي لاحظ الأعلام اللبنانية اليوم، من بعيد، ناحية جسر العدليّة تحديداً، هو واحد من هؤلاء السائقين الذين يصمتون خلال فترة الرحلة. لكنه سأل عن هوية المتجمعين، بكثافة، قرب المتحف. أخبرناه أن هذه التظاهرة ينظمها شباب ضد النظام الطائفي. بدت ملامح الاستغراب على وجهه في البداية، فبادر: «سمعت عنهم في التلفزيون، لكني لم أشارك قبلاً».
ركن سيارته قرب العدلية، ونزل للمشاركة، لتفحّص ما يجري. لم يكن السائق منضوياً في عمل منظّم، أي ليس حزبياً، أو في جمعية مدنية أو أهلية. ببساطة، راقه أن يشارك في حشد خارج إطار 8 و14 آذار «ينبذ الطائفية». سرعان ما اندمج السائق في الحشد، وأخذ مكانه بين المتظاهرين الآخرين. اختفى وسط الزحمة. كان هذا السائق واحداً من بضعة آلاف تظاهروا اليوم، مجدداً، رافعين أصواتهم وألوانهم ضد النظام الطائفي.

لم يتحدثوا في ما بينهم كثيراً عن العدد. الأصوات الموجودة كافية والشعارات توحّدت هذه المرة. ألقى المتحف بظلالٍ على الجموع. متظاهرون يصعب أن تعرف طوائفهم. شعاراتهم تلامس مساحة الجميع. لا تميّز ديموغرافياً ولا دينياً. والأيدي لا تدل على الطوائف. الأيدي التي ترفع الشعارات دائماً متشابهة. متشابهة، لكنها ليست منمّطة. وفي الثانية عشرة والنصف ظهراً، انتظم الجميع في صفوف متوجهين إلى ساحة مجلس النواب. كانوا أكثر انضباطاً هذه المرة، لولا حادثة فردية بسيطة، طلب خلالها المنظمون من أحد المشاركين، بلباقة، أن يتخلى عن لافتة يحملها مكتوب عليها: «لا نريد تدخّلاً سورياً، سعودياً، إيرانياً أو أميركياً في بلادنا». صحيح أنهم طلبوا منه رميها بلباقة، لكن اللافتة كانت لبقة أيضاً. وهذا يوحي بأن المتظاهرين حفظوا دروس حادثتي جبيل وصيدا أكثر من اللزوم. وعلى كل حال مشت التظاهرة. أهلها منسجمون، لكنهم ليسوا فريقاً واحداً. كان التباين واضحاً في طبيعة المشاركين. فبينما أقام عدد من المسرحيين والفنانين، منهم حنان الحاج علي وعايدة صبرا ونعمة نعمة، عرضاً رمزياً ينسجم مع واقع التظاهرة وشعاراتها، ظهر طبل عملاق ودربكة، صدحت من حولهما الأهازيج والهتافات. كلّ يعبّر على طريقته، إلا أن وجوههم واحدة. وجوه تفرّ من أصحابها نحو السماء وتسابق البالونات الملونة المتجهة إلى الله. وكان هناك بائع الكعك أيضاً. البائع الذي أحبّ أغنية «اسمع تفرح جرّب تحزن» (لشو التغيير) للفنان شربل روحانا، قال إنها مناسِبة تماماً للوضع القائم حالياً في لبنان. وبائع الكعك يعدّ مشاركاً في التظاهرة. فهو باع كعكته الأولى في المتحف، ثم وصل إلى وسط المدينة بدراجة هوائية فارغة من الكعك تقريباً. وقبل الوصول إلى وسط المدينة، كان هناك شارع البربير، مروراً بزقاق البلاط. عندما وصلت التظاهرة، أمس، إلى شارع الأوزاعي في البربير، تجمهر بعض الفضوليين لمشاهدة ماذا يحدث. وعلى أحد تلك الأرصفة استكان عجوز ثمانيني متكوّّماً على نفسه. الفضوليون الآخرون كانوا عاديين، لكن العجوز كان مميّزاً. لا لأنه متقدم في السن، ولا لأن ملابسه بدت من زمن آخر، بل لأنه كان نائماً إلى جانب الطريق، وقد أيقظته الأصوات القوية. رفع رأسه ببطء، وسأل أحد المشاركين: من هؤلاء؟ مشيراً بإصبع مرتجفة إلى المتظاهرين. أجابه الشاب بأن هناك تحركاً شبابياً لإسقاط النظام الطائفي. لم يأخذ العجوز ويعطي كثيراً. لكنه وقف بصعوبة، بعدما أعاد تثبيت قبعته الصوفية فوق رأسه، وراح يدقق في المارة بعينين متّشحتين بالتعب. ثم تطوّرت حال العجوز. رفع ساعده الأيمن تحيةً لعابرين لا يعرفهم. استجمع طاقةً كبيرة ليبتسم. الابتسام مكلف في هذه السن. الرجل عايش هذا النظام الذي خرج الشباب لإسقاطه، وتالياً، شهد جميع الحروب الناتجة منه. لكنه لم يتفوّه بكلمة واحدة غير «من هم هؤلاء؟». وعاد إلى نومه على ناصية الطريق.
